صعد النبي على الصفا ينذر عشيرته الأقربين

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين وإمام المرسلين.
أما بعد، فإني أقدم لكم شرحًا وافيًا لهذا الحديث النبوي الشريف، معتمدًا على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
### أولاً. تخريج الحديث
هذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، ورواه الإمام مسلم في صحيحه أيضًا. وهو حديث صحيح متفق عليه، مما يزيده قوة وثبوتًا.
### ثانيًا. شرح المفردات
● نزلت: أي أُنزلت الآية الكريمة من الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم.
● الصفا: جبل معروف في مكة المكرمة، قريب من الكعبة المشرفة.
● ينادي: يدعو ويصيح.
● يا بني فهر، يا بني عدي: هذان بطنان من بطون قبيلة قريش، وكان نداؤه بهما يعني نداء جميع قريش، إذ هما من أعرق بطونها.
● رسولاً: أي شخصًا يرسله ليخبره بالخبر.
● أرأيتكم: أخبروني.
● خيلاً: فرسانًا وجيشًا.
● تغيّر عليكم: تهجم عليكم.
● نذير: محذر.
● تبّاً لك: هلاكًا لك وخيبة.
### ثالثًا. المعنى الإجمالي للحديث
يخبرنا الحديث عن حدث عظيم في بداية الدعوة الإسلامية، عندما نزلت الآية الكريمة {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} على النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرته بأن يبدأ دعوته وينذر قومه وعشيرته الأقربين من عذاب الله.
فصعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا، ونادى بطون قريش بأسمائها، حتى اجتمعوا حوله متسائلين عن سبب هذا النداء الاستثنائي. وكانت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم بادية حينما قدم لهم مثلاً يقرب لهم المعنى، فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تريد أن تهجم عليكم من هذا الوادي، أكنتم تصدقوني؟". فأجابوه بأنهم يصدقونه لأنه الصادق الأمين الذي لم يعرفوا عنه الكذب أبدًا.
عندها بيّن لهم حقيقة الأمر، فقال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، أي أني أحذركم من عذاب الله الذي سيحل بكم إن لم تؤمنوا به وتوحّدوه.
لكن رد فعل أبي لهب -عم النبي صلى الله عليه وسلم- كان ردًا عنيفًا مليئًا بالغضب والاستهزاء، فقال: "تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟!"، أي هلاكًا لك، ألهذا الشيء التافه جمعتنا؟! فكانت عقوبته سريعة من الله تعالى، حيث نزلت سورة كاملة في ذمه وتوعده بالعذاب الشديد في نار جهنم، وهي سورة المسد.
### رابعًا. الدروس المستفادة والعبر
1- وجوب إنذار الأقربين أولاً: من حكمة الله تعالى أن يكون بدء الدعوة من الدائرة الأصغر (العائلة والعشيرة) ثم تتسع إلى الدائرة الأكبر (كل الناس). وهذا من باب تقديم الأقرب فالأقرب، والشفقة عليهم.
2- الحكمة في الدعوة إلى الله: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أسلوبًا حكيمًا في دعوته، حيث قدم لهم مثالاً ماديًا محسوسًا (الخيل في الوادي) ليؤكد لهم صدقه، ثم انتقل بهم إلى التحذير من الخطر الأعظم وهو عذاب الله.
3- ثبات النبي صلى الله عليه وسلم: على الرغم من المواجهة والاستهزاء الذي تعرض له من أقرب الناس إليه (أبو لهب)، إلا أنه ثبت على الحق ولم يتراجع. وهذا درس عظيم للدعاة في الصبر على الأذى.
4- جزاء الكفر والاستهزاء بالدعوة: كان نزول سورة المسد ردًا إلهيًا سريعًا على استهزاء أبي لهب، لتكون عبرة لكل من يعادِي دعوة الله ويستهزئ بها.
5- صدق النبي صلى الله عليه وسلم: اعتراف قريش بصدقه قبل البعثة ("ما جربنا عليك إلا صدقًا") هو أكبر دليل على نبوته، فكيف يكذب على الناس ثم يأتي ويقول أنا نبي؟!
6- التدرج في الدعوة: كان هذا الحدث من أوائل أحداث الدعوة الجهرية، بعد أن كانت سرية، مما يدل على حكمة التدرج في عرض تعاليم الإسلام.
### خامسًا. معلومات إضافية مفيدة
- نزلت هذه الآية في مكة المكرمة، في المرحلة المكية من الدعوة.
- أبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد الناس عداوة للإسلام.
- سورة المسد هي من السور المكية، وهي توعّد أبي لهب وزوجته أم جميل (حمالة الحطب) بنار جهنم.
- هذا الموقف يدل على أن القرابة من النبي صلى الله عليه وسلم لا تنفع صاحبها بدون إيمان، فأبو لهب عم النبي لكنه من أهل النار.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يعيننا على الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.