طبيبها الذي خلقها

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن ينفعنا وإياك بالعلم النافع. هذا حديث عظيم فيه دروس بليغة، وإليك شرحه الوافي على النحو المطلوب:

---

الحديث بلفظه:

عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: قال أبي (أي والد أبي رمثة) للنبي صلى الله عليه وسلم: "أرني هذا الذي بظهرك، فإني رجل طبيب". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبها الذي خلقها».
(رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وصححه الألباني)

---

1. شرح المفردات:

* أبي رمثة: هو صحابي جليل، واسمه تيمية بن رباح، وكنيته أبو رمثة.
* أرني هذا الذي بظهرك: يقصد الخاتم الذي بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من علامات نبوته، وكان يشبه بيضة الحمامة، فيه شعرات مجتمعات.
* طبيب: حاذق في مهنة الطب ومعالجة الأمراض.
* الله الطبيب: أي هو الشافي والمعافي من كل داء، وبيده الشفاء وحده.
* رفيق: أي حليم، رؤوف، متأنٍ في معالجتك، لا تعجل ولا تقسو.
* طبيبها الذي خلقها: أي الشافي الحقيقي هو الله تعالى الذي خلق الجسد ويعلم داءه ودوائه.

---

2. شرح الحديث:

يخبر الصحابي الجليل أبو رمثة رضي الله عنه أن والده جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يريه علامة النبوة التي على ظهره (الخاتم)، وبرر طلبه هذا بأنه رجل متمرس في الطب، وكأنه يريد أن يفحصها ويتأملها من باب الخبرة الطبية.
فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم رداً حكيماً وعظيماً، صحح فيه المفاهيم ووجهه إلى التوحيد:
* «الله الطبيب»: ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بتصحيح المصطلح والاعتقاد. فمهما بلغت مهارة الإنسان في الطب، فإن الشافي الحقيقي والمعافي من كل بلاء هو الله تعالى وحده. فالطبيب البشرى مجرد سبب من الأسباب التي يأذن الله بها للشفاء، ولكن الذي يبرئ ويشفي هو الله سبحانه. هذه كلمة جامعة ترد القلب إلى خالقه وتذكره بأن الأسباب لا تغني عن المسبب سبحانه.
* «بل أنت رجل رفيق»: هنا مدح النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بصفة إيجابية بدلاً من الصفة التي أطلقها على نفسه. فلم يقل له "أنت لست طبيباً" فذلك قد يجرحه، بل عدل إلى وصفه بالرفق، وهو خلق عظيم. أي أن ما تمتلكه ليس مجرد مهارة طبية جافة، بل هي مقرونة بالرفق واللين والرحمة بالمرضى، وهذه من أعظم صفات المعالج.
* «طبيبها الذي خلقها»: أكد النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الأول بتعيين من هو الطبيب الحقيقي، وهو الله تعالى الذي خلق هذا الجسد ويعلم ما يصلحه وما يفسده، ويعلم دقائق أموره وأسراره. فخالق الشيء هو أعلم به من غيره. وهذا توجيه لعدم الغرور بالمهارة البشرية ونسيان من هو الذي منحها.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- توحيد الألوهية والربوبية: الحديث درس عظيم في التوحيد، حيث يربط القلب بالله تعالى في أمر الشفاء، ويذكر أن كل أسباب العلاج بيد الله وحده.
2- الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله: النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الرجل مهنته أو معرفته بالطب، بل صحح له مفهومها وموقعها. فالأخذ بالأسباب مشروع، ولكن مع الاعتقاد الجازم أن المؤثر الحقيقي هو الله.
3- الرفق واللين في المعاملة: في قوله «بل أنت رجل رفيق» درس في فن التعامل مع الناس، ومدحهم بصفاتهم الحسنة، وتصحيح أخطائهم بلطف دون تجريح أو إهانة.
4- الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم: والدي أبي رمثة كان صحابياً، وطلبه كان بدافع المعرفة والتأكد من علامات النبوة، ومع ذلك وجهه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التوجيه الراقي.
5- التواضع وعدم الغرور: الحديث يحذر العلماء والأطباء وأصحاب المهن من الغرور بمهاراتهم، ويذكرهم بأنهم مجرد وسائل وأن الفضل والمنة لله تعالى.
6- إثبات علامات النبوة: الحديث دليل على وجود خاتم النبوة بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وهي إحدى العلامات التي أخبر بها الأنبياء من قبل.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* هذا الحديث أصل عظيم في ما يعرف بـ "آداب مهنة الطب"، حيث يجمع بين الأخذ بالسبب (المهارة الطبية) والإيمان (التوكل على الله وطلب الشفاء منه) والخلق (الرفق بالمرضى).
* يستدل به العلماء على أن تسمية الطبيب "طبيباً" تجوز، ولكن ينبغي أن يعتقد أن الله هو الشافي، كما صحح النبي صلى الله عليه وسلم.
* فيه دليل على جواز الكشف عن العورة للضرورة وللعلاج، ولكن بقدر الحاجة وبوجود من يثق به.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.