ائذن لي بالسياحة، قال: إن سياحة أمتي الجهاد

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
الحديث الشريف:
عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، ائذن لي بالسياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ».
(رواه أبو داود في سننه، وهو حسن)

---

1. شرح المفردات:

* ائذن لي: اطلب منك الإذن لي أو الموافقة.
* بالسياحة: السياحة في اللغة العربية الأصلية تعني التَّجَوُّل في الأرض والترحال، وغالبًا ما كان المقصود بها التعبُّد والانقطاع عن الناس في الصحراء أو الأديرة، كما كان يفعل بعض الرهبان والنُسَّاك قبل الإسلام.
* أمتي: جماعة المسلمين المؤمنين برسالتي.
* الجهاد في سبيل الله: بذل الجهد والوسع في قتال الكفار لنصرة دين الله وإعلاء كلمته، وهو يشمل أيضًا الجهاد بالنفس والمال واللسان.

---

2. شرح الحديث:

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالبًا الإذن بممارسة "السياحة" بالمعنى الذي كان سائدًا في الجاهلية وأديان سابقة، وهو اعتزال الناس والتفرغ للعبادة في البراري والجبال، معتقدًا أن هذا هو أقصى درجات الزهد والعبادة.
فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم له وللأمة جمعاء تحويل هذا المفهوم وتحريفه، وأعلن أن أعلى صور الانقطاع والتفرغ والتضحية في هذا الدين ليست في الهروب من المجتمع، بل في الانغماس فيه للدفاع عنه وإصلاحه. فجعل صلى الله عليه وسلم السياحة الحقيقية للمسلم هي الجهاد في سبيل الله.
فالجهاد هو سياحة القلب والجسد معًا:
* سياحة الجسد: بترحاله من دار الإسلام إلى أرض المعركة، وتحمل المشاق والسفر في سبيل الله.
* سياحة القلب: بانشغاله بهمٍّ عظيم هو إعلاء كلمة الله، وتحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، مما يرقى بالروح ويصفي القلب.
وبهذا نَقَل النبي صلى الله عليه وسلم الأمة من مفهوم العزلة السلبية إلى مفهوم المشاركة الإيجابية البناءة، التي تجمع بين العبادة الخالصة والعمل على حماية المجتمع الإسلامي ونشر دعوته.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- تفضيل الجهاد على العزلة: يبيّن الحديث المكانة السامية والدرجة الرفيعة للجهاد في سبيل الله، حيث جعله النبي صلى الله عليه وسلم بديلاً عن أرقى صور العبادة في التصورات السابقة.
2- نفي الرهبانية في الإسلام: الإسلام يرفض رهبانية الانعزال والهروب من الحياة ومسؤولياتها. فخير الناس أنفعهم للناس، والعبادة في الإسلام شاملة لكل عمل صالح ينفع المجتمع.
3- الجمع بين العبادة والعمل: الإسلام دين متكامل لا يفصل بين العبادة والعمل لصالح المجتمع والدفاع عنه. فأعظم العبادة قد تكون في خوض غمار الحياة دفاعًا عن الحق.
4- إعادة تشكيل المفاهيم: الإسلام يأخذ المفاهيم ويصوغها من جديد لتصبح متوافقة مع فلسفته وهدفه، فحوَّل مفهوم "السياحة" من ترحال للعبادة الفردية إلى ترحال للجهاد الجماعي.
5- الحث على بذل النفس: الحديث يحث على بذل الغالي والنفيس في سبيل الله، ويبين أن ذروة الإيمان تتجلى في الاستعداد للتضحية بالروح من أجل دين الله.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* السياحة في الإسلام لها معنى آخر: ليس معنى الحديث تحريم السفر للتبرك أو الاطلاع على عجائب خلق الله، فقد كان الصحابة يسافرون للتجارة والتعلم. بل المقصود هو ذلك النوع من "السياحة" الذي يقصد به الانقطاع التام للعبادة على طريقة الرهبان.
* مراتب الجهاد: الجهاد درجات، فأعلاه الجهاد بالنفس (القتال)، ثم الجهاد بالمال، ثم الجهاد باللسان (الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). فكل مسلم يمكنه أن يساهم في "سياحة أمته" حسب طاقته واستطاعته.
* الحديث لا يخصص: الحديث يشير إلى أن الجهاد هو سياحة *هذه الأمة*، مما يعني أنه أفضل ما تميزت به عن غيرها، ولكنه لا يعني أن أنواع العبادة الأخرى من صلاة وصيام غير مشروعة، بل هي أصول وأركان، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.