ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذا حديث قدسي عظيم رواه الإمام البخاري في صحيحه، يحمل في طياته كنوزًا من المعاني الإيمانية والتربوية العميقة. سأشرحه لكم جزءًا جزءًا بإذن الله.

---

أولاً. شرح المفردات:

● عَادَى: ناصب العداوة وأظهر الخصومة.
● وَلِيًّا: المؤمن التقي الذي يتقرب إلى الله بطاعته ويواليه، وليس كما تزعم بعض الفرق من أن الولي هو من تجري على يديه الخوارق.
● آذَنْتُهُ: أعلنتُ له وأعْلَمْتُه.
● افْتَرَضْتُهُ: الفروض الواجبة التي أوجبها الله على عباده.
● النَّوَافِل: السنن والمستحبات التي يتقرب بها العبد إلى الله بعد الفرائض.
● يَبْطِشُ بها: يضرب بها ويقبض ويأخذ.
● تَرَدَّدْتُ: توقفْتُ وحَبَسْتُ نفسي.
● مَسَاءَتَهُ: إيذاءه وحزنه.

---

ثانيًا. شرح الحديث:

ينقسم هذا الحديث القدسي إلى ثلاثة أجزاء رئيسية:
الجزء الأول: التحذير من معاداة أولياء الله
"مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ"
هذا تحذير شديد من الله تعالى لكل من يتعرض لأوليائه المؤمنين بالإيذاء أو العدوان. فمن عادى مؤمنًا تقيًا لكونه من أهل طاعة الله، فإن الله يعلن له الحرب ويخذله، لأن المؤمنين حزب الله وأنصاره، فمن ناصبهم العداء فقد ناصب الله نفسه العداء.
الجزء الثاني: بيان طريق التقرب إلى الله ومحبته
"وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ"
يبين الله تعالى أن أحب الأعمال إليه هي الفرائض التي أوجبها على عباده، كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها. فإذا أداها العبد على أكمل وجه، ثم زاد عليها بالنوافل والسنن، فإنه يتقرب إلى الله بها حتى ينال محبة الله تعالى. وهذا يدل على أن محبة الله تُنال بالاستمرار في الطاعات والاجتهاد في القربات.
الجزء الثالث: ثمرة محبة الله للعبد
"فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ"
هذا أعظم ما يناله العبد من كرامة عند الله، فإذا أحبه الله تعالى فإنه يصير تحت عنايته وتوفيقه، فيوفقه فلا يسمع إلا ما يرضي الله، ولا ينظر إلا إلى ما يحبه الله، ولا يبطش بيده إلا في طاعة الله، ولا تمشي رجله إلا إلى ما يرضيه. وهذا معنى قوله: "كُنْتُ سَمْعَهُ..." أي أن الله يوفقه ويسدده في جميع حركاته وسكناته.
ثم يبين الله أنه يستجيب لدعائه ويحميه مما يستعيذ منه، وهذا من كرامات الأولياء.
الجزء الرابع: رحمة الله بالمؤمن عند الموت
"وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ"
هذا بيان لعظيم رحمة الله بالمؤمن، فالله تعالى لا يتردد في شيء يريد فعله، ولكنه – تعظيمًا لشأن المؤمن – يُظهر التردد في قبض روح المؤمن لأنه يكره الموت لما فيه من فراق الدنيا وأهلها، والله يكره إيحاشه وإحزانه، لكنه يقبض روحه رحمة به لإدخاله الجنة.

---

ثالثًا. الدروس المستفادة:

1. وجوب محبة أولياء الله وعدم إيذائهم أو معاداتهم.
2. الفرائض هي أساس القرب إلى الله، ويجب إتقانها قبل الاشتغال بالنوافل.
3. الاستمرار في النوافل يورث محبة الله للعبد.
4. من أحبه الله هيأ له أسباب الهداية والتوفيق في جميع أحواله.
5. الله تعالى يجيب دعاء من أحبه ويحميه من الشرور.
6. الموت شديد على المؤمن، لكنه خير له بما يلقاه من رحمة الله وكرامته.

---

رابعًا. معلومات إضافية:

- هذا الحديث من أعلام الحديث القدسي، الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.
- فيه بيان لعقيدة أهل السنة في ولاية الله، وأنها تُنال بالتقوى وليست بالخرافات والدعاوى.
- يستدل به على كرامات الأولياء، ولكن بضوابط شرعية، وليس كما يفعله بعض الغلاة.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أوليائه المتقين، وأن يتوفانا وهو راض عنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.