معنى من رغب عن سنتي فليس مني

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، يوضح فيه المنهج الوسط الذي ارتضاه الله لهذه الأمة. وسأشرحه لك جزءاً جزءاً، مستنداً إلى كبار شروح الحديث المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، كشرح النووي على صحيح مسلم، وفتح الباري لابن حجر العسقلاني، وعمدة القاري للعيني.
### أولاً. نص الحديث ورواته
الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه (كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح) والإمام مسلم في صحيحه (كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
### ثانياً. شرح المفردات
● رهط: جماعة من ثلاثة إلى عشرة رجال.
● بيوت أزواج النبي ﷺ: حجرات أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
● تقالُّوها: استقلوها واستصغروها، رأوها قليلة بالنسبة لمقام النبوة.
● أصوم الدهر: أصوم كل الأيام دون إفطار.
● أعتزل النساء: أي أبتعد عن الزواج والتعلق بهن.
● أخشاكم لله: أشدكم خوفاً من الله.
● أتقاكم له: أبلغكم في طاعته وعبادته.
● رغب عن سنتي: أعرض عنها وتركها، واختار غيرها.
### ثالثاً. شرح الحديث
1- السياق والسبب: جاء ثلاثة رجال من الصحابة، وقد غلب عليهم حماسهم للعبادة وطلب الزهد، إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته الخاصة. فلما سمعوا بها – مع كونها كثيرة ومتوازنة – استقلوها في أنفسهم لأنهم قارنوها بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقالوا في أنفسهم: كيف لنا أن نلحق به وهو في هذه المنزلة؟!
2- رد فعل الصحابة وتطرفهم: ثم أعلن كل واحد منهم عزمه على التطرف في العبادة:
● الأول: نذر أن يصلي الليل كله ولا ينام.
● الثاني: نذر أن يصوم النهار كله ولا يفطر.
● الثالث: نذر أن يعتزل النساء ولا يتزوج أبداً.
فهذه آراء متطرفة، خرجت عن منهج الاعتدال الذي شرعه الله.
3- الموقف الحكيم للنبي صلى الله عليه وسلم: علم النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوه، فجاء إليهم مغضباً لهذا الانحراف عن المنهج القويم. فبدأ بتوضيح حقيقة حاله فقال: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له»، أي أنا أشدكم خوفاً من الله، وأعلمكم به، وأحرصكم على طاعته. فليس التقوى والخشية في التطرف والغلو، بل في اتباع الأمر والنهي.
ثم بين لهم منهجه العملي المتوازن الذي يوافق الفطرة ويحقق العبادة دون إرهاق: «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء».
● أصوم وأفطر: أي أصوم بعض الأيام (كالإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر) وأفطر أخرى، ولا أصوم الدهر كله.
● أصلي وأرقد: أي أصلي من الليل частьاً وأنام جزءاً آخر، فلا أحيي الليل كله.
● وأتزوج النساء: فالزواج ليس عائقاً عن التقوى، بل هو من سنتي ومن هدي الأنبياء.
4- التحذير الشديد: ثم ختم صلى الله عليه وسلم كلامه بتحذير شديد لكل من يحيد عن هذا المنهج المتوازن، فقال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني».
● «رغب عن» أي أعرض وترك.
● «فليس مني» أي ليس على طريقي وهديي، وقد فسرها العلماء بأنها ليست بلفظ كفر، ولكنها تفيد البعد عن طريقته وهديه صلى الله عليه وسلم، وأنه لا حظ له في شفاعته، أو أنها تعني التبرؤ منه في هذه الصفة الخاصة.
### رابعاً. الدروس المستفادة والعبر
1- وسطية الإسلام واعتداله: هذا الحديث أصل عظيم من أصول الدين، يُؤخذ منه ذم الغلو والتشدد في الدين، والتحذير من التنطع. فخير الأمور أوسطها. والعبادة المقبولة هي التي تكون على وفق السنة، لا على وفق الهوى والمبالغة.
2- مشروعية الزواج وذم الرهبانية: فيه إبطال لدعوى الرهبانية التي ابتدعها بعض الأمم، وتأكيد أن اعتزال النساء وترك النكاح ليس من الدين في شيء، بل هو مخالف لسنة النبيين والمرسلين.
3- التقوى الحقيقية: التقوى ليست في تحريم الطيبات أو إرهاق الجسد، بل هي في خشية الله واتباع أوامره واجتناب نواهيه within the boundaries He has set. فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الأتقى مع كونه يتزوج ويأكل ويشرب وينام.
4- الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم: الواجب على المسلم أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في عباداته ومعاملاته، وفي كل شؤون حياته. فهديه هو الكمال الذي لا غلو فيه ولا تقصير.
5- الغضب لله: يجوز الغضب إن انتهكت حرمات الله أو خالف