كلما خرج قرن قطع حتى يخرج الدجال

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث العظيم الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يحمل تحذيراً نبويّاً بليغاً من فئة ستظهر في الأمة، وهي من أخطر الفئات لأنها تتلبس بلباس الدين وتتظاهر به، ولكنها في الحقيقة تفتك بالأمة من داخلها.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● ينشأ نشء: أي يتربى ويظهر جيل أو جماعة.
● يقرؤن القرآن: أي يقرؤونه بحفظ ألفاظه وأحرفه.
● لا يجاوز تراقيهم: التراقي هي عظام الصدر عند الحلقوم، أي أن القرآن لا يتعدى حناجرهم إلى قلوبهم ليعملوا به.
● قرن: الجماعة أو الطائفة أو الفرقة المبتدعة الضالة.
● يقطع: أي يقهرهم الله ويذلهم ويبيدهم على يد أهل الحق.
● في عراضهم: العراض جمع عريض، وهو آخر الشيء وآخره، أي في آخر زمانهم وزمنهم.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهور جماعات من الناس يدَّعون الانتساب للإسلام، ويحفظون القرآن ويتلونه بألسنتهم، لكن هذا القرآن لا يصل إلى قلوبهم، فلا يؤثر في أخلاقهم ولا في سلوكهم، ولا يمنعهم من الخروج على جماعة المسلمين وارتكاب الكبائر وسفك الدماء بغير حق.
ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الفرق الضالة لن تدوم، بل كلما ظهرت فرقة منها وخرجت على الأمة ببدعتها وضلالتها، قيض الله لها من يردها على أعقابها خاسرة، ويقضي عليها، ويحفظ الله بهم الدين. وهذا الوعد الإلهي بتقطيع هذه الأقران (الفرق الضالة) هو تطمين من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بأن الباطل لا يستمر، وأن الله تعالى يحفظ دينه.
وقد كرر ابن عمر رضي الله عنهما سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "كلما خرج قرن قطع" أكثر من عشرين مرة، ليؤكد على حتمية وقوع هذا الوعد وثبوته، وأنه ليس أمراً عارضاً، بل هو سنة إلهية جارية.
ثم يختم الحديث بالإشارة إلى أن استمرار خروج هذه الفرق وقطعها سيستمر حتى يظهر المسيح الدجال، الذي هو من أعظم الفتن في آخر الزمان، مما يعني أن هذه الظاهرة (ظهور الفرق الضالة ثم إهلاكها) ستستمر طوال تاريخ الأمة حتى قيام الساعة.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- خطر العلم بلا عمل: أعظم خطر هو من يحمل العلم الشرعي (كحمل القرآن) ولكن لا يلتزم به في نفسه، فيصبح علمه حجة عليه، ويصير من الذين قال الله فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5].
2- التحذير من الغلو والتطرف: هذه الفرق الضالة غالباً ما تخرج بسبب الغلو في الدين والتشدد والتنطع، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
3- طمأنينة الأمة: الحديث يبعث على الطمأنينة بأن الله تعالى يحفظ دينه، وأن كل بدعة ضالة ستزهق وتمحق، وأن أهل الحق والسنّة هم المنصورون في النهاية.
4- وجوب التمسك بالجماعة: الحديث يحذر من الخروج على جماعة المسلمين وأئمتهم، ويبين أن الهلاك مصير كل من فارق الجماعة وشق عصا الطاعة.
5- الإيمان بقدرة الله ونصره: تكرار القطع "أكثر من عشرين مرة" يؤكد أن النصر من عند الله، وهو القادر على إهلاك أي طاغية أو فرقة ضالة في أي زمان ومكان.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وقع ما أخبر به، فكم من فرقة ضالة خرجت في تاريخ الأمة (كالخوارج، والمعتزلة، وغيرهم) وكان مصيرها الزوال والاندثار، وبقي أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية المحفوظة بحفظ الله.
- من أعظم الأمثلة على هؤلاء هم الخوارج، الذين كانوا يقرؤون القرآن ويجتهدون في العبادة، ولكنهم خرجوا على أئمة المسلمين وكفّروا المسلمين بالمعاصي، وسفكوا الدماء، وقد حذر منهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى، ووصفهم بأنهم "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".
- يجب على المسلم أن يتعاهد قلبه، ويسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وأن يعي أن قيمة العلم بالعمل به، لا بمجرد حفظه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.