منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مديها ودينارها

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يفتح علينا أبواب فهم حديث نبيه الكريم.
هذا الحديث العظيم الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وغيره، يحمل في طياته معاني عميقة وتنبؤات نبوية تحققت عبر التاريخ، وسنشرحه وفق النقاط المطلوبة بإذن الله.
### أولاً. شرح المفردات
● منعت: حبست وأمسكت عن أداء ما يجب عليها من أموال الزكاة والجزية وغيرها من الحقوق الواجبة للدولة الإسلامية.
● العراق: إقليم معروف، وكان من أغنى أقاليم الدولة الإسلامية.
● درهمها: العملة الفضية التي كانت متداولة.
● وقفيزها: مكيال للحبوب، وهو يساوي حوالي ١٢ صاعاً (أي حوالي ٢٤ كيلوغراماً تقريباً)، ويرمز به إلى الغلال والثمار.
● الشام: المنطقة التي تشمل اليوم سوريا والأردن وفلسطين ولبنان.
● مُدْيها: المدي (بضم الميم) مكيال للحبوب، يساوي ربع الصاع تقريباً.
● مصر: إقليم مصر.
● إردبَّها: الإردب (بكسر الهمزة) مكيال كبير للحبوب في مصر.
● وعُدتم من حيث بدأتم: أي رجعتم إلى حالة الضعف والفقر والشتات التي بدأتم منها، قبل أن يمن الله عليكم بالفتح والعزة.
● شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه: تعبير عن التأكيد القوي واليقين التام بصحة ما يرويه، كأن كل ذرة في جسده تشهد على صدق النبي ﷺ في نبوءته.
### ثانياً. شرح الحديث
يخبرنا النبي ﷺ في هذا الحديث عن مستقبل الأمة الإسلامية، فيتنبأ بأحداث ستقع بعد عصره. الحديث يتكلم عن ثلاثة أقاليم رئيسية كانت عماد الاقتصاد في الدولة الإسلامية:
1- العراق والشام ومصر: هذه الأقاليم كانت تُمثّل خزائن الدولة ومراكز قوتها الاقتصادية، حيث كانت تفيض بالخيرات والزروع وتُدرّ أموالاً طائلة من الزكاة والجزية والخراج تُنفق على مصالح المسلمين العامة، من جيوش وعلماء وفقراء ومشاريع.
2- المنع والامتناع: ي预言 النبي أن هذه الأقاليم الغنية ستمتنع في يوم من الأيام عن دفع هذه الأموال الواجبة عليها لخزينة الدولة المركزية. وهذا الامتناع ليس مجرد تقصير مالي، بل هو علامة على:
* ضعف سلطة الخلافة المركزية: حيث لم تعد قادرة على فرض هيبتها وجمع حقوقها.
* التمرد والانفصال: حيث ستطمع كل إقليم أو ولاية بالاستقلال بنفسه والاحتفاظ بموارده.
* الفساد الإداري والتفكك: وهو مقدمة لسقوط النظام السياسي الموحد.
3- العودة إلى نقطة البداية: التكرار ثلاث مرات في قوله: (وعُدتم من حيث بدأتم) للتنبيه والتأكيد على خطورة هذا المصير. وهو يعني أن الأمة ستعود إلى حالة من:
* الضعف السياسي والعسكري: كما كانت في مكة قبل الهجرة.
* الفقر والحاجة: بعد أن كانت أغنى وأقوى أمم الأرض.
* التشرذم والفرقة: بعد أن كانت أمة واحدة تحت قيادة واحدة.
* الذل والهوان: بعد أن كانت هي الآمرة الناهية في العالم.
وهذا ما حدث بالفعل في التاريخ الإسلامي، حيث بدأ التفكك في أواخر الدولة العباسية، مع ظهور الدويلات المستقلة التي تمتنع عن إرسال الأموال إلى الخليفة في بغداد، ثم ازداد الأمر سوءاً مع سقوط الخلافة وتقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات ضعيفة ومتقاتلة، وهو واقع كثير من البلدان الإسلامية اليوم.
### ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر
1- إعجاز النبوة: الحديث من أعظم معجزات النبي ﷺ، حيث أخبر عن أمور غيبية وقعت تماماً كما قال، وهذا دليل على صدق نبوته.
2- وحدة الأمة أصل قوتها: يربط الحديث بين الوحدة السياسية والاقتصادية تحت قيادة واحدة وبين القوة والمنعة، ويحذر من عواقب التمزق والانفصال.
3- الاقتصاد عصب الدولة: показывает أن قوة الدولة لا تقاس فقط بقوة جيشها، بل بسلامة نظامها الاقتصادي وقدرتها على جمع موارده وتوزيعها بعدل.
4- التذكير بنعم الله: الحديث تذكير بأن النعم – خصوصا نعمة القوة والمال – يمكن أن تزول إذا لم يشكرها الإنسان ويحافظ عليها بالطاعة والتوحيد.
5- البعد عن أسباب الهلاك: يحث الحديث على diagnose أسباب الضعف والهوان (وهي هنا العصيان وعدم أداء الحقوق والتمرد على الجماعة) لتجنبها.
### رابعاً. معلومات إضافية مفيدة
- هذا الحديث من الأحاديث التي تُعرف بـ "أشراط الساعة الصغرى" أو علاماتها، والتي أخبر عنها النبي ﷺ لتحذير الأمة.
- يؤكد العلماء أن هذا الحديث لا يتناقض مع وجوب الزكاة، فهو يخبر عن واقع سيكون، ولا يعني أن الزكاة سُقطت، بل إنها باقية إلى قيام الساعة، ولكن الامتناع عن إخراجها هو من علامات الساعة وفساد الحال.
- في هذا الحديث توجيه غير مباشر للعمل على لم الشمل وإعادة بناء نظام اقتصادي إسلامي قائم على العدل والتكافل.
نسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يوحد صفوفهم، ويردهم إلى دينهم رداً جميلاً.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله