لم أكسكها لتلبسها فكساها عمر أخا له مشركا

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث الشريف رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو حديث عظيم فيه موعظة بليغة وعبرة جليلة. وإليك الشرح المفصل له على النحو التالي:

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● حُلَّةً سِيراءَ: الحلة هي الثوب الكامل الذي يكون من إزار ورداء. والسيراء هي المصنوعة من الحرير. وقيل: هي التي فيها خطوط من حرير.
● عند باب المسجد: أي في السوق المجاور للمسجد النبوي.
● للوَفْدِ إذا قدِموا عليك: الوفد هم الجماعة من الناس الذين يأتون لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم من قبائل العرب وغيرهم.
● لا خِلاقَ له: لا نصيب له ولا حظ من الخير في الآخرة.
● حُلَل: جمع حلة، وهي الأثواب الكاملة.
● عُطَارِد: هو اسم التاجر الذي كان يبيع الحلة، أو اسم مكان بيعها.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يحكي هذا الحديث قصة حدثت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث رأى حلة فاخرة (ثوبان من حرير أو فيهما خطوط حرير) تباع عند باب المسجد، فأعجبته ورأى أنها تليق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة عند استقباله للوفود ويوم الجمعة، فاقترح على النبي صلى الله عليه وسلم شراءها.
فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم رداً حاسماً يعلمه وأمته أن هذا النوع من اللباس - وهو الحرير للرجال - ليس من شيم المؤمنين، بل هو من لباس أهل الدنيا الذين لا نصيب لهم في الآخرة، أي الذين انشغلوا بزينة الدنيا وزخرفها عن طاعة الله وعبادته.
ثم بعد ذلك، أُهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم عدد من هذه الحلل الفاخرة، فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه واحدة منها. فاستغرب عمر من هذا الإعطاء بعد التحذير الشديد الذي سمعه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم مستفهماً: "كيف تكسونيها وقد قلت ما قلت في مثلها؟".
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يعطه إياها ليلبسها هو نفسه، إنما أعطاه إياها ليتصرف فيها بما يراه مناسباً دون أن يلبسها. ففهم عمر رضي الله عنه المغزى، فلم يلبسها هو، بل أعطاها لأخ له ما زال على الشرك، رجاء أن يكون هذا العطاء سبباً في دخوله الإسلام أو لينتفع بها في دنياه.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- تحريم لبس الحرير على الرجال: وهو من أظهر الأحكام في هذا الحديث، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أن لبسه من صفات من لا خلاق له في الآخرة. وهذا التحريم مقيد بالرجل دون المرأة.
2- حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم: لم يزجر عمر رضي الله عنه عندما اقترح عليه شراءها، بل بين له الحكم الشرعي بأسلوب واضح ومؤثر.
3- جواز قبول الهدايا والتصرف فيها: حتى لو كانت من الأشياء المحرمة على المسلم، بشرط ألا يستعملها هو في محرم، بل يتصرف فيها ببيعها أو إهدائها لغير المسلم الذي لا يحرم عليه لبسها.
4- الحكمة في الدعوة إلى الله: تصرف عمر رضي الله عنه بإعطاء الحلة لأخيه المشرك يدل على ذكائه وحكمته، حيث استخدم المال والهدية كوسيلة للتقرب إليه ودعوته إلى الإسلام، وهذا من باب "تألف قلوبهم".
5- التنزه عن زينة الدنيا الفاخرة: يتجلى في الموقف حرص الصحابة على التزام الزهد والبعد عن مظاهر الترف، واقتناعهم بأن زينة الآخرة وخيرها أعظم وأبقى.
6- طاعة الصحابة وانقيادهم: استجابة عمر الفورية لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وامتثاله لهديه، حيث لم يلبسها هو بل تصرف فيها كما أشار عليه.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث أصل في باب تحريم حرير الذكور، وهو إجماع من أهل العلم.
- يجوز للرجل استخدام الحرير في حالات الضرورة، مثل العلاج من حكة أو مرض جلدي، كما ورد في بعض الأحاديث.
- المرأة يجوز لها لبس الحرير بجميع أنواعه، لأنه من زينتها المباحة لها.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا الفقه في دينه والزهد في دنياه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.