إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفيء السراج

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث العظيم الذي يرويه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، معتمدًا على كلام أهل العلم المعتبرين:

---

الحديث:

عن أبي هريرة، قال: أتى رجلٌ رسولَ اللَّه ﷺ فقال: يا رسول اللَّه، أصابني الجهْد، فأرسل إلى نسائه فلم يجدْ عندهنّ شيئًا، فقال رسولُ اللَّه ﷺ: «ألا رجلٌ يضيف هذه اللّيلة، يرحمه اللَّه». فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول اللَّه، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيفُ رسول اللَّه ﷺ لا تدَّخريه شيئًا. قالتْ: واللَّهِ ما عندي إلّا قوتُ الصِّبْية، قال: فإذا أراد الصِّبية العشاء فنوِّميهم وتعالَيْ فأطفيءِ السّراج، ونطوي بطوننا اللّيلة، ففعلتْ، ثم غدا الرّجلُ على رسول اللَّه ﷺ، فقال: «لقد عجب اللَّهُ عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة». فأنزل اللَّه عز وجل: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [سورة الحشر: ٩].

---

1. شرح المفردات:

● الجهْد: شدة الفقر والحاجة، وهو هنا الجوع الشديد.
● أصابني الجهْد: نزل بي الجوع والفقر المدقع.
● لا تدَّخريه شيئًا: لا تمنعي ضيف رسول الله شيئًا من الطعام، بل قدمي كل ما عندك.
● قوت الصبية: طعام الأطفال الذي يكفيهم فقط.
● نوِّميهم: اجعلي الأطفال ينامون.
● أطفيءِ السراج: أطفئي المصباح (حتى لا يرى الضيف أنهم لا يأكلون معه).
● نطوي بطوننا: نجوع ولا نأكل.
● غدا الرجل: ذهب الرجل في الصباح.
● عَجِبَ الله أو ضحك: إظهار الرضا والاستحسان من الله تعالى لفعلهم، و"عجب الله" بمعنى استغرب وأعجب من كرمهم وتضحيتهم، و"ضحك" هنا من باب المجاز، ويعني الرضا والقبول، وليس كضحك البشر.
● خصاصة: حاجة وفقر شديد.

---

2. المعنى الإجمالي للحديث:

يخبر أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه شدة الجوع والفقر، فسأل النبي نساءه إن كان عندهن طعام يطعمه به، فلم يجد عندهن شيئًا. فطلب النبي من الصحابة أن يضيفوا هذا الرجل، فاستجاب رجل من الأنصار لهذه الدعوة، وذهب إلى بيته وأخبر زوجته أن ضيف رسول الله عندهم، وطلب منها أن تقدم له كل ما عندها من طعام. فأخبرته أن عندها فقط طعامًا يكفي الأطفال، فاقترح عليها أن تُعطي الضيف الطعام، وتُنمّي الأطفال، وتُطفئ السراج حتى لا يرى الضيف أنهم لا يأكلون، فيشعر بالحرج. وفعلت الزوجة ما طلب منها. وفي اليوم التالي، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد عجب أو ضحك من فعل هذا الرجل وزوجته، ونزلت الآية الكريمة تصف هذا الصنيع العظيم.

---

3. الدروس المستفادة منه:

● الإيثار والتضحية: الحديث يظهر أعلى درجات الإيثار، حيث فضّل الأنصاري وزوجته ضيفهما على أنفسهما وأطفالهما، رغم حاجتهم الشديدة.
● إكرام الضيف: الضيافة من أخلاق الإسلام، وقد حث النبي على إكرام الضيف، حتى لو كان المرء في حاجة.
● تعاون الزوجين: التعاون بين الزوجين في فعل الخير ومساعدة المحتاجين يؤدي إلى الأجر العظيم والرضا من الله.
● الاستجابة لدعوة النبي: سرعة استجابة الأنصاري لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على محبته لرسول الله وحرصه على طاعته.
● التخفيف على الضيف: إطفاء السراج حتى لا يرى الضيف أنهم لا يأكلون معه، يدل على رقة المشاعر وحسن المعاملة.
● الله يعجب من أفعال عباده: الله تعالى يرضى ويرفع منزلة عباده عندما يفعلون ما يسرّه، و"عجب الله" أو "ضحكه" تعبير عن رضاه وقبوله لفعلهم.
● القرآن ي immortalize الأعمال الصالحة: الله تعالى أنزل آية في القرآن تخلد فعل هذا الأنصاري وزوجته، مما يدل على أن الأعمال الصالحة قد تبلغ درجة أن يتنزل القرآن بذكرها.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهما أصح الكتب بعد القرآن.
- الآية التي نزلت في حق هذا الأنصاري وزوجته هي جزء من سورة الحشر، التي تمدح الأنصار وتذكر فضائلهم.
- القصة تدل على أن الإيثار من أعلى درجات الإيمان، وقد ورد في القرآن مدح الله للمؤثرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
- الحديث يظهر فضل الأنصار رضي الله عنهم، وكرم أخلاقهم وتضحيتهم في سبيل الله ورسوله.
- ينبغي للمسلم أن يحرص على الإيثار والتضحية لإخوانه المحتاجين، ولو كان في حاجة نفسه، فإن الله سيعوضه خيرًا في الدنيا والآخرة.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الإيثار والتضحية في سبيله، وأن يجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.