إنِّي صائمٌ

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يفقهنا في ديننا. هذا حديث عظيم في آداب الصيام، سأشرحه لك جزءاً جزءاً مستعيناً بالله، ومستنداً إلى كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «لا تسابَّ وأنتَ صائمٌ، وإن سابَّك أحدٌ فقُلْ: إنِّي صائمٌ، وإنْ كنتَ قائمًا فاجلسْ».
(رواه البخاري ومسلم)

---

1. شرح المفردات:

* تَسابَّ: من المُسَابَة، وهي الشتم والسب والفحش في القول، والمنازعة والمشاتمة. أي: لا تسب غيرك ولا تشتمه.
* صائمٌ: أي في نهار رمضان أو في أي صوم نفل.
* سابَّك: شتمك وسبابك.
* قَائِمًا: أي واقفاً في مكانك، وقد يكون الوقوع في الشتم أسهل في حالة المواجهة والوقوف.

---

2. شرح الحديث:

يوجهنا النبي ﷺ في هذا الحديث إلى خلق رفيع يجب أن يتحلى به الصائم، ويبين أن للصيام حرمة وآداباً تتجاوز مجرد الامتناع عن الطعام والشراب.
* «لا تسابَّ وأنتَ صائمٌ»: هذا نهيٌ صريح عن مجاراة الآخرين في السباب والشتائم أثناء الصيام. فالصيام ليس إمساكاً عن المفطرات الحسية فحسب، بل هو إمساك عن كل ما يخل بالعبادة من المفطرات المعنوية، ومن أعظمها إيذاء الناس باللسان. فمن سابَّ وهو صائم، فقد نقص صومه وخسر أجره، وربما أفسده معنوياً وإن لم يفسده حكماً.
* «وإن سابَّك أحدٌ فقُلْ: إنِّي صائمٌ»: هنا يأتي التوجيه العملي لما يجب على الصائم فعله إذا تعرض للشتم أو الإيذاء. ليس الأمر مجرد كف عن رد الإساءة، بل هو تذكير للنفس وللآخر بحقيقة الحال. قول "إني صائم" له معنيان عظيمان:
1- تذكير للنفس: فهو كلمة تردعك عن الغضب وتذكرك بأنك في عبادة عظيمة، فلا تفسدها بمجازاة المسيء بمثل فعله.
2- رد على المسيء: وهو رد حكيم يقطع حجته ويسكت شره، فهو إعلان بأنك لست عاجزاً عن الرد، ولكنك ممتنع عنه لعبادة أنت فيها لله تعالى. وهو ما يسمى "الرد بالأفضل"، فيكون في هذا الرد الرفيع زجر للطرف الآخر وخجل له من نفسه.
* «وإنْ كنتَ قائمًا فاجلسْ»: هذه وصية عملية أخرى لتفادي الموقف وتجنب تصعيده. القيام قد يكون موقفاً للمواجهة، والجلوس فيه هدوء واستكانة، وهو يغير من حدة الموقف النفسية والجسدية. فكأن النبي ﷺ يعلّمنا أن نغير من هيئتنا وسلوكنا العملي لكي نسيطر على ردود أفعالنا ونغلب غضبنا.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- مقصد الصيام الحقيقي: أن الصيام الشرعي هو صيام الجوارح كلها، وليس صيام البطن والفرج فقط. فصيام اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والسب من أعظم مقاصد الصيام، وهو الذي يرقى بالعبد إلى حقيقة التقوى.
2- الحلم وكظم الغيظ: يأمر الحديث بالحلم وكظم الغيظ عند الغضب، خاصة في حال العبادة، وهذا من صفات عباد الله المتقين. قال تعالى: *"وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"* [آل عمران: 134].
3- حفظ قيمة العبادة: العبادة لها حرمة ومكانة، ويجب على المسلم أن يحفظها من أن تدنس بالأخلاق الذميمة والأفعال السيئة.
4- التربية على الذكاء العاطفي والاجتماعي: الحديث يقدم أدوات عملية للتعامل مع المواقف الصعبة (كلمة تقال، هيئة تتغير) بدلاً من الانفعال، مما يحفظ العلاقات الاجتماعية ويصون كرامة المسلم.
5- أن الجزاء من جنس العمل: كما تمتنع عن الحلال لله، فتمتنع عن الحرام له. وكما تترك طعامك وشرابك لله، فاترك شتمك وردك على المسيء لله، وليكن أجرك على الله أعظم.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* ذهب بعض العلماء إلى أن من شتم وهو صائم عامداً ذاكراً لصومه، فإنه لا يفطر بذلك في أصح قولي العلماء، ولكنه ينقص أجره نقصاً كبيراً، وقد قال النبي ﷺ: «رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوعُ والعطش» (رواه أحمد وابن ماجه)، وذلك بسبب عدم حفظه لصومه عما حرم الله.
* هذا الخلق ليس مقصوراً على الصائم فقط، بل هو مطلوب من المسلم في كل وقت، ولكن التأكيد عليه في الصيام لأن الصيام يجمع شعب الإيمان، ولأن الإنسان قد يغضب سريعاً عندما يجوع ويعطش.
* ينبغي للمسلم أن يجعل قوله "إني صائم" وسيلة للتذكير والزجر، لا وسيلة للتفاخر أو العجب بالنفس.
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يعيننا على حسن الأخلاق والعبادة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.