البينة أو حد في ظهرك

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث العظيم رواه الإمام البخاري في صحيحه، وفيه قصة نزول آيات اللعان في سورة النور، والتي شرعت حكماً عظيماً لحل مشكلة اجتماعية خطيرة. وإليك الشرح المفصل:

---

1. شرح المفردات:

● قذف امرأته: أي اتهمها بالزنا.
● بشريك بن سحماء: هو الرجل الذي اتهمه هلال بأنه على علاقة بزوجته.
● البينة: الدليل والبرهان الواضح الذي يثبت صحة الاتهام، وهو هنا يشترط أربعة شهود يشهدون برؤية الزنا رأي العين.
● حد في ظهرك: أي عقوبة الجلد (80 جلدة) التي توقع على من يقذف محصناً ولا يأتي بأربعة شهود.
● ينطلق يلتمس البينة: يذهب مسرعاً يبحث عن الشهود والدليل.
● يبرئ ظهري من الحد: أي يخلص ظهري من عقوبة الجلد المترتبة على القذف.
● فنزل جبريل: أي جاء جبريل عليه السلام بالوحي من الله تعالى بهذه الآيات.

---

2. شرح الحديث:

تتلخص قصة الحديث في أن رجلاً من الصحابة يدعى هلال بن أمية - رضي الله عنه - جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غاية الغضب والغيرة، واتهم زوجته بأنها خانت مع رجل يُدعى شريك بن سحماء.
فطالبه النبي صلى الله عليه وسلم بحكم الله تعالى: "البينة أو حد في ظهرك". أي إما أن تأتي بأربعة شهود يشهدون بأنهم رأوا الزنا رأي العين، وإلا فستُجلد ثمانين جلدة عقوبة لك على قذفك امرأة محصنة.
وهنا برزت معضلة هلال؛ فهو يعلم في يقينه أن زوجته قد خانته، ولكنه يعجز عن إثبات ذلك بالبينة، لأن أمر الزنا يحدث في الخفاء عادة ولا يراه إلا القليل. فاعترض بلطف قائلاً: "يا رسول الله! إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً، أن يذهب مسرعاً ليبحث عن شهود؟!". فهذا أمر مستحيل عملياً، فالشهود لن ينتظروه ليأتي بهم!
لكن النبي صلى الله عليه وسلم أصر على الحكم الشرعي الثابت: "البينة أو حد في ظهرك". فلا يمكن أن يعاقب إنساناً (الزوجة) بناء على مجرد ادعاء دون دليل.
عندها، استشعر هلال بن أمية عظم الموقف، وتوسل إلى الله تعالى، وحلف بالله الذي بعث النبي بالحق أنه صادق في اتهامه. ودعا الله أن ينزل حكماً يبرئه هو من عقوبة القذف، ويحقق العدالة.
فاستجاب الله تعالى لدعائه، ونزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات من سورة النور (من الآية 6 إلى الآية 9)، والتي شرعت "حكم اللعان" كبديل عن البينة عندما يتهم الرجل زوجته بالزنا.

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

● عدالة الشريعة الإسلامية: الشريعة تحمي الأعراض وتصونها، فلا تقبل اتهام أي شخص (رجل أو امرأة) بجريمة أخلاقية خطيرة مثل الزنا دون دليل قاطع (أربعة شهود). هذا يحمي المجتمع من انتشار التهم الباطلة.
● حكمة تشريع اللعان: اللعان هو حل إلهي عبقري لمأزق اجتماعي كبير. فهو يحقق العدالة للزوج الغيور الذي يثق في صدق نفسه لكنه عاجز عن الإثبات، وفي نفس الوقت يحمي الزوجة من عقوبة القذف أو الرجم إذا أنكرت. وهو بمثابة "قسامة" في الأعراض.
● آداب الدعاء: دعاء هلال بن أمية كان في موضعه، وكان من أسباب نزول الرحمة والتشريع للأمة. فالدعاء مع اليقين بالله سبب للفرج.
● الغيرة على الأعراض: قصة هلال تدل على غيرته الشديدة على عرضه، وهذه الغيرة محمودة شرعاً، وهي من صفات المؤمنين.
● التدرج في التشريع: نزول آيات اللعان بعد الحادثة يدل على أن التشريع الإسلامي كان يتنزل بحسب الحوادث والحاجات، مما يجعله واقعياً وقابلاً للتطبيق.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

● كيفية اللعان: التي شرعتها الآيات هي أن يشهد الزوج أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين في اتهامه، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم تشهد الزوجة أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. وبذلك يسقط الحد عن الزوج (حد القذف) وتسقط العقوبة عن الزوجة (حد الزنا)، ويتم الفراق بينهما إلى الأبد.
● مكانة الحديث: هذا الحديث من الأحاديث التي عليها مدار باب اللعان في كتب الفقه، وهو أصل من أصول هذا الحكم العظيم.
● الفرق بين البينة واللعان: البينة (أربعة شهود) تثبت الزنا فتُقام حدوده (الرجم للمحصن أو الجلد لغير المحصن). أما اللعان فلا يثبت الزنا، وإنما هو فقط يسقط الحد عن الطرفين ويوجب الفرقة.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.