اللهم بين في قصة المتلاعنين

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النبوي الشريف الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه، معتمدًا على كلام أهل العلم والشرح المعتمد لدى أهل السنة والجماعة.

---

الحديث ومصدره:

هذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه (باب اللعان) عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو حديث صحيح متفق على صحته.

---

شرح المفردات:

● التلاعن: المقصود به "اللعان" وهو процедуرة شرعية بين الزوجين عندما يتهم الزوج زوجته بالزنا دون بينة، فيقسمان أيمانًا خاصة لينهيا النزاع.
● مُصفَّرًا: أي لون بشرته مائل إلى الصفرة.
● سبط الشعر: الشعر الناعم المسترسل.
● آدم: أسمر البشرة.
● خَذَلًا: قليل الشعر في جسده، أو قليل اللحم في ساقيه.
● تظهر في الإسلام السوء: أي كانت معروفة بالفجور والفسق.

---

شرح الحديث:

1- السياق العام:
كان الصحابة يتحدثون عن مسألة "اللعان" في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، فتحدث عاصم بن عدي في الموضوع ثم انصرف. بعد ذلك، جاءه رجل من قومه يشكو أنه وجد مع امرأته رجلاً (أي في حالة زنا).
2- رد فعل عاصم بن عدي:
قال عاصم: "ما ابتُلِيتُ بهذا إلا لقولي"، وهذا من أدبه وتواضعه، حيث ظن أن هذا البلاء نزل به بسبب كلامه في المسألة دون أن يكون لديه علم كافٍ، مع أن الأمر ليس كذلك، لكنه من حسن ظنه بنفسه وخوفه من القول بغير علم.
3- عرض القضية على النبي صلى الله عليه وسلم:
ذهب عاصم بالرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالقضية. وكان الوصف الجسدي للرجل الذي اتهمته الزوجة (أي الذي قالت إنه زوجها الذي وجدته معها) لا يتطابق مع وصف الرجل الذي وجده الزوج فعلاً:
- الرجل المتهم (الذي قال الزوج إنه وجده): كان آدم (أسمر)، خَذَلًا (قليل اللحم في ساقيه)، كثير اللحم بشكل عام.
- بينما الرجل الذي ادعى الزوج أنه وجده: كان مُصفَّرًا (مائل إلى الصفرة)، قليل اللحم، سبط الشعر (ناعم الشعر).
4- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيق اللعان:
لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم التناقض في الأوصاف، ولم تكن هناك بينة واضحة، دعا بقوله: «اللهم بيّن»، أي أظهر الحقيقة وافصل بينهما. ثم جاءت المرأة بشاهد يشبه الرجل الذي ذكره الزوج (أي أن الشاهد كان مشابهاً في الصفة للرجل الذي ادعى الزوج أنه وجده)، فطبق النبي صلى الله عليه وسلم procedure اللعان بين الزوجين كما شرع الله.
5- اللغط حول هوية المرأة:
سأل رجل ابن عباس: هل هذه المرأة هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "لو رجمتُ أحدًا بغير بيّنة لرجمتُ هذه"؟ فأجاب ابن عباس: لا، تلك امرأة أخرى كانت معروفة بالفجور والفسق في المدينة (وهي المرأة الغامدية التي جاءت confessing بالزنا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجمها حتى تكمل شروط الإثبات). أما هذه المرأة في حديثنا فلم تكن معروفة بالسوء، ولذلك طبق النبي صلى الله عليه وسلم اللعان ولم يرجمها.

---

الدروس المستفادة:

1- الحكمة من شرعية اللعان:
اللعان شرعه الله لحل النزاع بين الزوجين عند اتهام الزوج لزوجته بالزنا دون بينة، وهو يحفظ الأعراض ويوقف التهمة دون عقوبة إذا لم تكن هناك أدلة كافية.
2- التثبت في الأمور وعدم التسرع:
النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم مباشرة، بل دعا الله أن يبين الحقيقة، وهذا درس في التأني والتثبت في القضايا خاصة التي تتعلق بالأعراض والعورات.
3- الفرق بين اللعان والحد:
اللعان يطبق عندما لا توجد بينة كافية، أما الحد (الرجم) فيطبق عندما تتحقق الشروط (الإقرار أو الشهود). لذلك نفى ابن عباس أن تكون هذه المرأة هي التي أشير إليها في حديث الرجم.
4- أهمية الأوصاف والدقة في الشهادة:
التناقض في أوصاف المتهم أدى إلى تعقيد القضية، مما يدل على أهمية الدقة في الرواية والشهادة.
5- أدب الصحابة وحسن ظنهم:
قول عاصم "ما ابتليت بهذا إلا لقولي" يعكس أدب الصحابة وخوفهم من القول بغير علم.

---

معلومات إضافية:

- اللعان مشروع بالقرآن والسنة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [النور:6].
- بعد اللعان، تتفكك عقدة الزواج، ولا حد على المرأة، لكنها تبرأ ساحتها بالأيمان.
- المرأة التي أشار إليها ابن عباس (التي قال النبي فيها "لو رجمت أحدًا بغير بينة لرجمت هذه") هي المرأة الغامدية التي جاءت تطلب تطبيق حد الزنا عليها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رفض حتى تثبت البينة، يظهر عدل الشريعة.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.