ثلاث تطليقات عند رسول الله ﷺ فأنفذها

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن ينفعنا بما ندرس ونفهم من سنة نبيه الكريم.
هذا الحديث الذي ذكر رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو حديث عظيم يتعلق بأحكام الطلاق واللعان، وسأشرحه لك جزءاً جزءاً بإذن الله.

---

أولاً. شرح المفردات:

* فطلّقها ثلاث تطليقات: أي أن الرجل طلق زوجته ثلاث طلقات دفعة واحدة في جلسة واحدة.
* فأنفذه رسول الله ﷺ: أي أمضاه النبي ﷺ واعتبره طلاقاً بائناً يفسخ النكاح.
* سنة: أي طريقاً وسنةً عمليةً يُقتدى بها ويُحكم بمثلها.
* المتلاعنين: هما الزوج والزوجة إذا حصل بينهما اللعان، وهو أن يتهم الرجل زوجة بالزنا ولا يأتي بأربعة شهداء، فيقذفها، فتُلاعنه أمام القاضي.
* أن يفرق بينهما: أي يحكم القاضي بالتفريق بين الزوجين تفريقاً أبدياً.
* لا يجتمعان أبدًا: أي أن هذا التفريق نهائي، ولا يحل للزوج أن يراجعها أو يتزوجها مرة أخرى بعد ذلك.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يحكي الصحابي الجليل سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه شهد واقعة عظيمة أمام النبي ﷺ، حيث جاء رجل وطلق زوجته ثلاث طلقات مجتمعة في مرة واحدة، أي قال لها: "أنت طالق ثلاثاً".
فأمضى النبي ﷺ هذا الطلاق واعتبره وقعت به الثلاث، وأن الزوجة قد بانت منه بينونة كبرى، ولا تحل له بعد ذلك حتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً (وهو ما يسمى بـ "تحليل المحصن" بشروطه المعروفة، وهو أمر مغلظ ومكروه للغاية).
ثم يبين سهل رضي الله عنه أن هذه الحادثة التي حصلت أمام النبي ﷺ وأمضاها أصبحت سنة عملية يقتدى بها، أي أصبح الحكم الشرعي الذي يُعمل به هو أن الطلاق الثلاث إذا uttered مجتمعةً في كلمة واحدة، فإنه يقع وتُعدّ المرأة مطلقة ثلاثاً.
ثم يستطرد سهل رضي الله عنه في بيان حكم آخر مشابه في نتيجته النهائية، وهو حكم اللعان. فبعد أن بين سنة الطلاق الثلاث، ذكر أن السنة جرت أيضاً في شأن المتلاعنين (الزوج الذي يلاعن زوجته ويتهمها بالزنا دون بينة، فترد عليه الزوجة باللعان أيضاً) أن يفرق القاضي بينهما تفريقاً أبدياً، ولا يجوز لهما بعد ذلك أن يعودا إلى بعضهما الببدا، فهذا التفريق like الطلاق البائن، لا رجعة فيه.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والفقه في الحديث:

1- وقوع الطلاق الثلاث المجتمعة: هذا الحديث من أدلة أهل السنة والجماعة على أن من طلق زوجته ثلاثاً بكلمة واحدة (مثل: أنت طالق ثلاثاً، أو بالثلاث) فإن الطلاق يقع، وتُعدّ المرأة مطلقة ثلاثاً. وهذا مذهب الجمهور (الشافعية، والحنابلة، ورواية عن الإمام مالك). وهو خلاف ما ذهب إليه الإمام ابن تيمية وابن القيم من أن الطلاق الثابت في السنة هو التطليق الواحدة تلو الأخرى، وأن الثلاث المجتمعة لا تقع إلا واحدة. ولكن العمل على مذهب الجمهور هو الأحوط للدين.
2- الإحتكام إلى سنة النبي ﷺ: الحديث يدل على وجوب الرجوع إلى سنة النبي ﷺ العملية والقولية في فهم الأحكام الشرعية وتنزيلها على الواقع. فما أمضاه النبي ﷺ أو فعله فهو تشريع للأمة.
3- خطورة التلاعب بأحكام الطلاق: الحديث يبين عظم شأن الطلاق وخطورته، وأن إيقاع الثلاث دفعة واحدة يترتب عليه مفارقة الزوجة مفارقة كبرى لا عودة فيها إلا بشروط عسيرة، مما يحذر المسلم من الاستهانة بهذا الأمر.
4- حكمة التشريع في اللعان: بيان حكمة الشارع في شرع اللعان، حيث أنه حفظ به الأنساب ودرأ الحد عن المتهمة عندما لا توجد بينة، ولكنه في نفس الوقت شرع عقوبة للزوج الكاذب وهي فراق زوجته أبداً.
5- الفرق بين طلاق الثلاث واللعان: كلاهما يترتب عليه فراق أبدي، لكن الفرق أن المطلقة ثلاثاً تحل لزوجها الأول إذا تزوجت زوجاً آخر زواجاً صحيحاً ثم طُلقت أو مات عنها، أما الملاعنة فلا تحل للزوج الذي لاعنها أبداً.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

* هذا الحديث أصل في باب الطلاق، وله طرق أخرى في الصحيحين وغيرهما.
* مسألة وقوع الطلاق الثلاث من المسائل الكبرى التي اختلف فيها الفقهاء قديماً وحديثاً، والأحوط للمسلم أن لا يطلق ثلاثاً دفعة واحدة، بل يقتصر على الطلاق السني وهو أن يطلقها واحدة في طهر لم يمسسها فيه.
* الحديث يربط بين حكمين عظيمين (الطلاق الثلاث واللعان) من حيث النتيجة النهائية، وهي الفراق الأبدي، مما يدل على خطورة هذين الأمرين على كيان الأسرة.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعيننا على العمل بسنة نبينا محمد ﷺ.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.