لا تشرب المسكر ولا تسقيه أخاك المسلم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النبوي الشريف شرحًا وافيًا، مستندًا إلى كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة، مع بيان دروسه وعبره.

---

الحديث:

عن طلق بن علي أنه كان عند رسول الله ﷺ جالسا، فجاء صحار عبد القيس، فقال: يا رسول الله، ما ترى في شراب نصنعه بأرضنا من ثمارنا؟ فأعرض عنه نبي الله ﷺ، حتى سأله ثلاث مرات، حتى قام فصلى، فلما قضى صلاته، قال النبي ﷺ: «من السائل عن المسكر؟ لا تشربه، ولا تسقيه أخاك المسلم، فوالذي نفسي بيده، أو فوالذي يحلف به - لا يشربه رجلٌ ابتغاء لذة سكره، فيسقيه الله الخمر يوم القيامة».

---

1. شرح المفردات:

* صحار عبد القيس: هو صحار بن العباس بن صحار العبدي، من قبيلة عبد القيس، وهي قبيلة معروفة من ربيعة، كانت تسكن في منطقة البحرين.
* شراب نصنعه: أي مشروب نتخذه ونعمله.
* ثمارنا: يقصد بها التمر أو العنب أو ما يشابههما من الفواكه التي يمكن تخميرها لتصنيع الشراب.
* أعرض عنه: أي صرف وجهه الكريم عنه ولم يجب على سؤاله.
* المسكر: كل ما خامر العقل وغطاه وأسكره، سواء كان من العنب أو التمر أو الحنطة أو غيرها.
* ابتغاء لذة سكره: طلبًا للذة السكر والنشوة التي يسببها ذلك الشراب.
* فسقيه الله الخمر يوم القيامة: أي أن عقابه من جنس عمله، فيسقيه الله تعالى من خمر العذاب في نار جهنم.

---

2. شرح الحديث:

يصور لنا هذا الحديث المشهد التربوي العظيم، حيث يأتي صحار بن العباس رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله عن حكم شراب كانوا يصنعونه في أرضهم من ثمارهم (كالعنب والتمر)، وهو ما يعرف بالنبيذ الذي إذا ترك تخمر وأسكر.
* إعراض النبي صلى الله عليه وسلم أولاً: لم يجب النبي صلى الله عليه وسلم على السؤال من أول مرة، بل أعرض، ثم أعرض في المرة الثانية والثالثة. هذا الإعراض ليس هروبًا من الجواب، بل هو أسلوب تربوي حكيم لعدة أمور:
* بيان عظم الجرم: لينبه السائل والحاضرين على خطورة ما يسأل عنه وعظم شأنه، فالمسألة ليست عادية.
* التأكيد على التحريم: ليكون النهي أبلغ وأشد وقعًا في النفس بعد هذا التربص والانتظار.
* كرهه صلى الله عليه وسلم للسؤال عن المعاصي: كان صلى الله عليه وسلم يكره أن يُسأل عن أشياء لم تقع، أو يُتساهل في السؤال عن المعاصي.
* الانتظار حتى الصلاة: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي، وهذا أيضًا له حكمة، وهي الاستعانة بالله تعالى وطلب التوفيق منه في البيان، وليكون الجواب في حالة من الوقار والاتصال بالله.
* الجواب الحاسم بعد الصلاة: بعد أن قضى صلاته، نادى بالسائل وأجابه بجواب حاسم وشديد:
* النهي عن الشرب: «لا تشربه» هذا نهي صريح عن تعاطي هذا الشراب المسكر بأي حال من الأحوال.
* النهي عن المشاركة في الإثم: «ولا تسقيه أخاك المسلم» وهذا أبلغ، فليس فقط شربه حرام، بل حتى مشاركته للغير فيه وإعطاؤه إياه حرام، لأنه إعانة على الإثم والعدوان.
* الوعيد الشديد: أقسم النبي صلى الله عليه وسلم بالله – وهو لا يقسم إلا على أمر عظيم – أن من يشرب الخمر طلبًا للذة سكرها، فإن عقابه سيكون من جنس عمله، فيسقيه الله يوم القيامة من خمرة أهل النار، التي هي من العذاب الأليم، كما قال تعالى: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- تحريم كل مسكر: الحديث نص صريح في تحريم كل ما يسكر كثيره، سواء كان من العنب أو التمر أو العسل أو الحبوب، وهو أصل من أصول تحريم الخمر والمفترات.
2- تحريم الإعانة على المعصية: النهي عن سقي الأخ المسلم إياه يدل على تحريم أي تعاون أو إعانة على شرب الخمر، كبيعها أو حملها أو صنعها لمن يتعاطاها.
3- عظم جرم شرب الخمر: بيّن الحديث بشدة وعيد شارب الخمر، وأنه من الكبائر التي توعّد عليها بالنار.
4- الحكمة في التربية والتعليم: استخدم النبي صلى الله عليه وسلم أسلوبًا تربويًا فريدًا بالإعراض والتأخير لتركيز الانتباه وبيان أهمية الأمر وخطورته.
5- التثبت في الفتوى: لم يبادر النبي صلى الله عليه وسلم بالجواب، بل انتظر الوقت المناسب، مما يدل على عظم أمر الفتوى ووجوب التثبت فيها.
6- الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم: في هديه وأخلاقه وحكمته في التعامل مع الناس وتعليمهم.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
* يستدل به العلماء على أن التحريم يشمل كل نبيذ مسكر، وليس فقط خمر العنب، ردًا على من خص التحريم به.
* الحديث يرد على من يتساهل في بعض المش