أول ما نزل من القرآن سورة فيها ذكر الجنة والنار

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أهلاً بك، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث العظيم رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وصححه، ووافقه الذهبي، وهو حديث صحيح ثابت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وفيه دروس عظيمة وفوائد جليلة.

---

أولاً. شرح المفردات:

● ويحك: كلمة تقال للتحقير والتهديد، ومعناها: هلاكك أو شقاؤك.
● مصحفك: أي القرآن المكتوب بين دفتي المصحف الذي كان عندها.
● أؤلف القرآن عليه: أي أرتبه حسب ترتيب المصحف العثماني.
● يقرأ غير مؤلف: يقصد أنه يقرأ بترتيب النزول وليس بالترتيب المصحفي.
● ثاب الناس: أي رجع الناس واعتنقوا الإسلام.
● المفصل: هو آخر أجزاء القرآن، السور القصيرة التي كثر فيها الفصل بين السور بالبسملة.
● أدهى وأمر: الدّهاء هو الشدة والاحتيال، والأمرّ: هو الأشق والأصعب.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا الراوي (يوسف بن ماهك) أنه كان جالساً عند أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فجاءها رجل من العراق وسألها سؤالين:
1- سؤال عن الكفن: فأجابته بردٍّ حكيم يُعلِّمه التوكل على الله وعدم الانشغال بما لا يعنيه، وأن الموت آتٍ لا محالة، والأهم هو الاستعداد له بالعمل الصالح، وليس الانشغال بتفاصيل الكفن.
2- سؤال عن المصحف: وهذا هو لب الحديث. طلب منها أن تريه مصحفها ليرتب القرآن عليه، زاعماً أنه يُقرأ "غير مؤلف" أي بترتيب النزول وليس بالترتيب المجمع عليه في المصحف العثماني.
فردت عليه أم المؤمنين رداً عالماً حكيماً، يشرح حكمة الله تعالى في تنزيل القرآن، وهي:
● الترتيب في النزول كان بحكمة: نزل القرآن مفرقاً على مدى 23 سنة، ولم ينزل جملة واحدة.
● المرحلية في التشريع: بدأ القرآن بالدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر، والترغيب في الجنة والترهيب من النار. فلما استقر الإيمان في قلوب الناس، نزل بعد ذلك تشريع الحلال والحرام.
● الحكمة من ذلك: لو نزل تحريم الخمر أو الزنا أولاً، لاستعظمه الناس ورفضوه وقالوا "لا ندعه أبداً"، لأن قلوبهم لم تكن قد تهيأت بعد لقبول هذه التشريعات. فكانت الرحمة واللطف من الله أن هيأ قلوبهم أولاً بالإيمان، ثم شرع لهم الأحكام.
ثم ضربت أم المؤمنين مثلاً من سيرتها الشخصية لتؤكد أن ترتيب المصحف هو الترتيب الذي جمعه الصحابة بإجماع، وهو توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قالت: "لقد نزل بمكة على محمد ﷺ وإني لجارية ألعب: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾" وهذا من أوائل ما نزل، بينما "ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده" أي وهي زوجة له في المدينة، ومع ذلك فهي مرتبة في المصحف بعد سورة الفاتحة وقبل سور المدينة.
وفي النهاية، استجابت لطلبه وأخرجت له المصحف وأملت عليه آيات السورة ليرى بنفسه الترتيب المصحفي المتواتر.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- حكمة التشريع الإسلامي: الإسلام دين يسر ورفق، يتدرج بالناس من حال إلى حال، ويراعي ظروفهم واستعدادهم النفسي.
2- الرد على أهل الأهواء والبدع: هذا الحديث حجة على من أراد أن يقرأ القرآن بترتيب النزول، أو يشكك في الترتيب المصحفي المجمع عليه. فترتيب آيات القرآن وسوره توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما جمعه الصحابة في المصحف العثماني بإجماع منهم.
3- علم أم المؤمنين عائشة وفضلها: حيث كانت رضي الله عنها من أعلم الناس بالقرآن ونزوله وأحكامه، لملازمتها للنبي صلى الله عليه وسلم وسؤالها عنه.
4- الأدب في التعلم والتعليم: حيث أجابت السائل برفق وحكمة، ولم تعنفه إلا بقدر ما يستحق، ثم بينت له الصواب.
5- عدم الانشغال بما لا طائل تحته: كما في ردها على سؤاله عن الكفن، فالأولى الانشغال بتعظيم الأمر والاستعداد للقاء الله.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث أصل في باب "أسباب النزول" و "نزول القرآن مفرقاً".
- يؤكد الحديث أن جمع القرآن في مصحف واحد على هذا الترتيب كان بإجماع من الصحابة، وهو مما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس اجتهاداً منهم.
- سورة القمر (التي ذكرت فيها الآية) مكية، بينما سورتا البقرة والنساء مدنيتان، وهذا دليل على أن ترتيب السور في المصحف لا يعتمد على ترتيب النزول.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.