من ماء غير آسن أو من ماء غير ياسن

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النافع الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وغيره، مع بيان فوائده وعبره:

---

الحديث بصيغته:

عن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له: نُهَيك بن سِنَان إلى عبد الله (يعني ابن مسعود رضي الله عنه)، فقال: يا أبا عبد الرحمن! كيف تقرأ هذا الحرف، ألفا تجده أم ياء: (مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد: 15] أو (مِنْ مَاءٍ غَيْرِ يَاسِنٍ)؟ فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة. فقال عبد الله: هَذًّا كهَذِّ الشِّعْرِ؟ إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع. إن أفضل الصلاة الركوع والسجود، إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، سورتين في كل ركعة. ثم قام عبد الله فدخل علقمة في إثره، ثم خرج فقال: قد أخبرني بها.

---

شرح المفردات:

● نُهَيك بن سِنَان: اسم الرجل السائل، وهو من التابعين.
● آسِنٍ أو يَاسِنٍ: كلمة "آسِن" تعني الماء المتغير المنتن، و"يَاسِن" تحريف لها، والصحيح "آسِن" بالألف.
● أحصيت: أي حفظت وأتقنت.
● المفصَّل: هو جزء القرآن من سورة ق إلى آخر القرآن، سمي بذلك لكثرة الفصول بين سوره بالبسملة.
● هَذًّا كهَذِّ الشِّعْر: الهذ هو القراءة السريعة دون تدبر، كأن يهذ الشعر أي يقرأه بسرعة.
● لا يجاوز تراقيهم: التراقي هي عظام الصدر عند الحلقوم، أي لا يتعدى حناجرهم إلى قلوبهم فلا يؤثر فيها.
● فرسخ فيه: أي ثبت واستقر.
● النظائر: السور المتشابهة في الطول أو المعنى.

---

شرح الحديث:

1- الجزء الأول: سؤال نهيك بن سنان عن قراءة كلمة (آسِن):
- جاء الرجل إلى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يسأله عن كيفية قراءة كلمة في قوله تعالى: {وأنهار من ماء غير آسن} [محمد: 15]، هل هي بالألف "آسِن" أم بالياء "يَاسِن"؟
- فأجابه ابن مسعود بأن الصحيح هي "آسِن" بالألف، ثم استنكر عليه أن يشغل نفسه بهذا مع إهمال باقي القرآن، فقال: "وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟" أي: هل حفظت القرآن كله ولم يبق إلا هذه الكلمة؟ وهذا تعليم للأولوية في طلب العلم، حيث ينبغي الاهتمام بإتقان القرآن كله قبل التوقف عند细节 جزئية.
2- الجزء الثاني: تفاخر الرجل بقراءة المفصل في ركعة:
- أجاب الرجل بأنه يقرأ المفصل (وهو حوالي 65 سورة) في ركعة واحدة، مما يدل على سرعته في القراءة.
- فأنكر عليه ابن مسعود ذلك إنكارًا شديدًا، وشبه قراءته السريعة "كهذ الشعر"، أي كقراءة الشعر بسرعة دون تأمل، لأن المقصود من القرآن التدبر والتعقل، لا مجرد التلاوة السريعة.
3- الجزء الثالث: تحذير ابن مسعود من قراءة بلا تدبر:
- بين ابن مسعود أن بعض الناس يقرؤون القرآن لكنه لا يتجاوز حناجرهم، أي لا يصل إلى قلوبهم فيعملون به، بل يقتصر على التلاوة فقط.
- وأكد أن القرآن إذا وقع في القلب ورسخ فيه، فإنه ينفع صاحبه، وذلك بالتدبر والعمل.
4- الجزء الرابع: توجيه إلى الخشوع في الصلاة:
- ذكر ابن مسعود أن أفضل الصلاة هو الركوع والسجود، أي مواضع الخشوع والتذلل لله، لا طول القيام.
- ثم أخبر أنه يعلم السور التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينها في الركعة (مثل سورتي الرحمن والنجم، أو الطور والذاريات)، مما يدل على أن النبي كان يطيل في بعض الصلوات لكن مع التدبر، لا مع العجلة.
5- الجزء الأخير: حرص علقمة على العلم:
- عندما دخل ابن مسعود بيته، تبعه تلميذه علقمة رحمه الله ليعرف哪些 السور التي كان النبي يقرن بينها، ثم خرج وأخبر بها، وهذا يدل على حرص السلف على تعلم السنة والدقة في نقلها.

---

الدروس المستفادة:

1- أهمية التدبر في القرآن: لا ينبغي للمسلم أن يهتم بكمية القراءة فقط، بل بالتدبر والعمل، كما قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص: 29].
2- ذم العجلة في القراءة: القراءة السريعة بدون فهم أو خشوع مذمومة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" (رواه أبو داود والترمذي).
3- فضل الخشوع في الصلاة: أفضل ما في الصلاة هو الخشوع، خاصة في الركوع والسجود، كما في الحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (رواه مسلم).
4- الأولوية في طلب العلم: ينبغي للمسلم أن يرتب أولوياته في العلم، فيتعلم الأهم فالمهم، ولا يشغل نفسه بالجزئيات قبل إتقان الأساسيات.
5- حرص السلف على السنة: كما فعل علقمة في اتباع ابن مسعود لمعرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدعونا إلى الحرص على تعلم السنة ونقلها بد