قال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم من أحاديث الرحمة والمودة التي جاء بها نبينا محمد ﷺ، وسأشرحه لك جزءاً جزءاً مستعيناً بالله، ومستنداً إلى كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

الحديث بلفظه:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَبَّلَ رسولُ الله ﷺ الحسنَ بن علي، وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قَبَّلْتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله ﷺ ثم قال: «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ».
(متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الأدب، ومسلم في كتاب الفضائل)

---

أولاً. شرح المفردات:

● قَبَّلَ: أي وضع فمه على خد الصبي أو جبهته تعبيراً عن المحبة والشفقة.
● الحسن بن علي: هو سبط رسول الله ﷺ وريحانته من الدنيا، ابن السيدة فاطمة الزهراء والإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
● الأقرع بن حابس التميمي: أحد وجهاء قبيلة تميم وساداتها في الجاهلية والإسلام، وكان من المؤلفة قلوبهم.
● عشرة من الولد: أي عشرة أبناء ذكور.
● ما قَبَّلْتُ منهم أحدًا: لم أفعل هذا الفعل مع أي واحد منهم، تعبيراً عن قسوة قلبه وجفاء طبعه.
● نظر إليه: التفت إليه رسول الله ﷺ نظرة متأملة فيها عتاب وتوجيه.
● مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ: هذا جملة شرطية فيها حكم عظيم، يعني: من عدم رحمته للخلق (وهم أحوج ما يكونون إليها) حُرِمَ هو نفسه من رحمة الله تعالى.

---

ثانيًا. شرح الحديث:

يصور لنا هذا الحديث المشهد العاطفي الجميل حيث كان النبي ﷺ جالساً، فجاء إليه حفيده الحسن الصغير، فقبله رسول الله ﷺ وقام بتدليله وإظهار محبته له، وهذا من شدة رحمته ﷺ وعطفه على الصغار.
وكان حاضراً في المجلس رجل من كبار القوم، وهو الأقرع بن حابس، الذي نشأ في بيئة جافة قاسية (بيئة الجاهلية) حيث كانت الشدة والقسوة تعتبران من علامات الرجولة، فاستنكر ما رآه من النبي ﷺ واستغربه، بل وافتخر بأنه هو نفسه عنده عشرة أولاد لم يقبل أيًا منهم طوال حياته، ظانًا أن هذا هو السلوك الأقوى والأ masculino.
فلم يغضب النبي ﷺ من قوله، ولم يزجره زجراً شديداً، بل نظر إليه نظرة فيها عتاب رقيق، وتأمل، وتصحيح للمفاهيم، ثم ألقى عليه هذه الكلمة الجامعة التي هي قاعدة من قواعد الدين الإسلامي: «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ».
وهذا القول النبوي الكريم يحمل معنيين عظيمين:
1- الوعيد والتحذير: فهو تحذير شديد للذي يقسو قلبه على الناس، ولا يرحم ضعفهم ولا حاجتهم، ولا يعطف على صغيرهم، أن هذا السلوك سيكون سبباً في حرمانه من أعظم نعمة يحتاجها، وهي رحمة الله تعالى الواسعة. فكما أنت قاسٍ على خلق الله، ستحرم من رحمة خالقك.
2- التعليل والتعليم: النبي ﷺ هنا يربي أصحابه وأمته على أن الرحمة ليست ضعفاً ولا عيباً، بل هي قوة وفضيلة عظيمة، وهي السبيل لكسب رحمة الله عز وجل. فمن أراد أن ينال رحمة ربه، فليبدأ هو بإطلاق رحمته على خلقه.

---

ثالثًا. الدروس المستفادة والعبر:

1- رحمة الأطفال والعطف عليهم من سنن المرسلين: فعل النبي ﷺ هو القدوة والأسوة، وهو يبين أن إظهار المحبة للصغ�ار وتقبيلهم واللعب معهم ليس أمراً مذموماً، بل هو من كمال الرحمة والإيمان. قال ﷺ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا» (رواه الترمذي).
2- الرحمة سبب لنيل رحمة الله: الحديث يربط بين سلوك العبد مع الخلق ومعاملة الخالق له. وهذا من عدل الله تعالى وحكمته. فمن يغلق باب الرحمة عن الآخرين، كيف يطلب فتحه له؟
3- الرد على مفاهيم الجاهلية: الإسلام جاء ليصحح المفاهيم الخاطئة، فالقوة ليست في القسوة والجفاء، بل القوة الحقيقية في التحكم في النفس وحملها على الفضائل، including الرحمة والرقة حتى مع الأعداء في بعض المواطن.
4- أسلوب النبي ﷺ في التعليم والنصيحة: لم يوبخ الأقرع توبيخاً يُذله، بل نظر إليه نظرة متأملة (وهي من أساليب التربية الفعالة لجذب الانتباه) ثم وجهه بهذه الحكمة البليغة التي حفظها التاريخ. وهو أسلوب يعتمد على التأثير في القلب والعقل معاً.
5- ذمُّ القسوة وغلظة القلب: الحديث ذمٌ صريح للشخص القاسي القلب الذي لا يعرف العطف، وتحذير من عاقبة هذا السلوك.

---

رابعًا. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث يظهر جانباً من الرحمة العالمية التي جاء بها الإسلام، والتي تشمل حتى الحيوان، فقد قال ﷺ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» (رواه البخاري)، يعني: في