إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فأقدم لكم شرحًا وافيًا لهذا الحديث النبوي الشريف، معتمدًا على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

الحديث:

عن أبي جحيفة وهب السوائي قال: آخى النبي ﷺ بين سلمان، وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، قال: فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له، فقال النبي ﷺ: «صدق سلمان».

---

1. شرح المفردات:

● آخى: عقد أخوة إيمانية بين المهاجرين والأنصار، ثم بين المسلمين عامة.
● متبذلة: متغيرة الهيئة، غير مهتمة بزينتها، وربما تكون لابسة ثيابًا رثّة بسبب انشغالها بالعمل.
● ليس له حاجة في الدنيا: أي أنه زاهد فيها، منصرف عنها، لا يهتم بشؤونها.
● فقام أبو الدرداء يقوم: أي تهيأ وأراد أن يقوم للصلاة.
● قم الآن: أي حان وقت القيام للصلاة (قيام الليل).

---

2. شرح الحديث:

يصور لنا هذا الحديث موقفًا حكيمًا من الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه مع أخيه في الله أبي الدرداء رضي الله عنه.
● الأخوة الإيمانية: بدأ الحديث بذكر الإخوة التي عقدها النبي ﷺ بين الصحابة، والتي كانت رابطة قوية على أساس الدين والتقوى، تجاوزت روابط القبيلة والعرق. فسلمان من فارس وأبو الدرداء من العرب، ولكن جمع بينهما الإسلام.
● زيارة سلمان لأبي الدرداء: في هذه الزيارة، لاحظ سلمان إهمال أبي الدرداء لشؤون الدنيا بالكلية، حيث وجد زوجته "أم الدرداء" في حالة غير لائقة، مما يعكس تأثر حياتها الأسرية بزهد أبي الدرداء الشديد.
● الحوار حول الطعام والصيام: عندما قدم أبو الدرداء الطعام لضيفه سلمان، أخبره أنه صائم (صيام نفل)، لكن سلمان رفض أن يأكل وحده، وأصر على أن يفطر أبو الدرداء معه ليأكلا سويًا. وهذا درس في حق الضيف وحق النفس، فالصيام النافل لا يجوز أن يكون على حساب حقوق الآخرين من الضيافة والإكرام.
● الحوار حول قيام الليل: أراد أبو الدرداء أن يقوم الليل كله، لكن سلمان نصحه بأن ينام أول الليل ليرتاح، ثم يقوم في آخر الليل ليصلي. وهذا توازن بين حق العبادة وحق الجسم في الراحة.
● الكلمة الجامعة (العبرة الرئيسية): لخص سلمان الحكيم الموقف بكلمته البليغة: "إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه". فهذه هي فلسفة الإسلام في التوازن والاعتدال، وعدم الغلو في الدين.
● تصديق النبي ﷺ: عندما ذهب أبو الدرداء إلى النبي ﷺ وأخبره بقول سلمان، صدقه النبي ﷺ وأيده بقوله: "صدق سلمان". وهذا تأكيد من النبي على صحة هذا المبدأ العظيم.

---

3. الدروس المستفادة منه:

● التوازن في الحياة الإسلامية: الإسلام دين التوازن، فلا إفراط ولا تفريط. فلا ينبغي للعبد أن يغلو في العبادة حتى يضيع حقوقًا أخرى، كحق الجسم في الراحة، وحق الأسرة في الرعاية، وحق الضيف في الإكرام.
● مراعاة حقوق الآخرين: الزهد الحقيقي ليس هو هجر الدنيا وإهمالها، بل هو عدم التعلق بها مع القيام بواجباتها. فإهمال شؤون الأسرة تحت شعار الزهد هو في الحاقع تضييع لأمانة.
● الحكمة والموعظة الحسنة: قدم سلمان نصحه لأبي الدرداء بأسلوب حكيم، عملي، ومحبب، ولم ينتقده انتقادًا جافًا. وهذا هو الأسلوب الأمثل في الدعوة والنصيحة.
● مشروعية صيام النفل وإفطاره لأجل الضيافة: إصرار سلمان على أن يأكل أبو الدرداء معه يدل على أن إكرام الضيف مقدّم على صيام النفل.
● تنظيم وقت العبادة: النوم أول الليل والقيام آخره هو الأفضل، كما جاء في أحاديث أخرى، لأنه يجمع بين العبادة وحق الجسم في الراحة.
● قيمة الأخوة في الله: الحديث نموذج رائع للأخوة الصادقة التي تقوم على النصيحة والمحبة في الله.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

● سلمان الفارسي: هو من كبار الصحابة، وكان حكيمًا عالمًا، وقصته في البحث عن الحق ووصوله إلى النبي ﷺ معروفة ومشهورة.
● أبو الدرداء: من عُبّاد الصحابة وزُهّادهم، وكان معروفًا بكثرة العبادة.
- هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، وهو من أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.
فالحديث يعلمنا that the path to Allah is not through extreme asceticism that neglects worldly responsibilities, but through balanced worship that fulfills all rights – the rights of Allah, the rights of one's own self, and