أعظم الناس فرية من هجا قبيلة بأسرها أو انتفى من أبيه.

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن ينفعنا بما ندرس من سنة نبيه ﷺ.
هذا حديث شريف رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه، وغيرهما، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ فِرْيَةً لَرَجُلٌ هَجَا رَجُلًا فَهَجَا الْقَبِيلَةَ بِأَسْرِهَا، وَرَجُلٌ انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ وَزَنَى أُمَّهُ».
وفي رواية أخرى: «أَعْظَمُ الْفِرَى...».

---

أولاً. شرح المفردات:

● فِرْيَةً: (بكسر الفاء) أي الكذبة العظيمة والبُهتان الشنيع. والفِرْيَةُ: هي الكذبة الفاحشة التي يتفَرَّى بها صاحبها، أي يفترى الكذب ويختلقه.
● هَجَا: الهجاء هو ذكر الإنسان بما يعيبه من سوء الخُلُق أو القبيح من الأفعال، وهو ضد المدح. وهنا يعني: شتمه وذمّه وتعييره.
● انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ: أي أنكر نسبه إلى أبيه الحقيقي وادعى أنه ابن لغيره، فنفاه عنه.
● زَنَى أُمَّهُ: أي نسبها إلى فعل الفاحشة (الزنا)، وهو اتهام لها بالعهر وعدم العفاف.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يبيّن النبي ﷺ في هذا الحديث نوعين من أعظم الكذب والافتراء على الناس وأشدها إثماً وقبحاً:
1- الافتراء الأول: "رجل هجى رجلاً فهجا القبيلة بأسرها"
- هذا يعني أن رجلاً خاصمه أو غاضبه رجل آخر فرد عليه بهجائه وشتمه، ولكنه لم يقتصر على شتم ذلك الرجل وحده، بل تجاوز ذلك إلى شتم قبيلته بأكملها وعيب أنسابهم وأعراضهم، وهو أمر لم يقترفوه هم، بل هو مجرد رد فعل غاضب وحقد على فرد منهم.
- هذا الفعل من أعظم الفرَى لأنه ظلم جماعي، حيث يعمّق العداوة ويوسع دائرة الفتنة، ويؤذي أبرياء لم يكونوا طرفاً في الخصومة أساساً، فيرميهم بذنب لم يقترفوه. وهو منافية للأخلاق الإسلامية التي تأمر بعدم تجاوز حد الظلم ولو باللسان.
2- الافتراء الثاني: "ورجل انتفى من أبيه وزنى أمه"
- هذا النوع أشد قبحاً وأعظم إثماً. فهو يجمع بين جرمين عظيمين:
● جرم انتفاء الابن من أبيه: وهو إنكار نسبه إلى والده الشرعي الذي رباه ونسبه الناس إليه. هذا فعل من أعمال الجاهلية، وهو جحود للجميل ونكران للفضل، ويُحدث خللاً في أنساب الأمة ويُضيع حقوق القرابة والوراثة.
● جرم اتهام أمه بالزنا: وهو اتهام لأمه بعدم العفاف وارتكاب الفاحشة، مما يعني أنه ابن زنا (عياذاً بالله). وهذا اتهام بغير دليل، وهو من أقبح القذف وأشنعه، لأنه لا يمس شرف أمه فقط، بل يشكك في أصله ونسبه هو نفسه، فيجمع بين ظلم الأم وظلم نفسه بادعاء هذا النسب الدنيء.
- فكأن هذا الرجل بحركة واحدة قد افترى على أبيه بأن نفاه، وعلى أمه بأن قذفها، وعلى نفسه بأن ادعى أنها ولدته من سفاح. فهو كذبة واحدة تجمع ثلاث فرى عظيمة.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- عظم إثم الكذب والافتراء: يوضح الحديث أن الكذب ليس درجة واحدة، بل هناك كذب هو "أعظم الفرَى"، أي أكبر الكذب وأشده إثماً، وهو ما ترتب عليه أذى كبير وظلم للآخرين.
2- تحريم الظلم الجماعي: التحذير من إيذاء الجماعة أو القبيلة بجريرة فرد منها، فالإسلام ينهى عن العقوبة الجماعية وتحمل البريء ذنب المجرم.
3- الحفاظ على الأنساب: النسب من الأمور التي حرص الإسلام على حفظها وصيانتها، ولهذا حرم الانتساب إلى غير الأب وحرم القذف الذي يشكك في الأنساب.
4- بر الوالدين: الحديث يندرج تحت التحذير من عقوق الوالدين، فانتفاء الابن من أبيه هو من أشد أنواع العقوق، واتهام الأم بالفاحشة هو من أقبح أنواع الأذى لها.
5- ضبط اللسان: الحديث تحذير شديد من خطر اللسان، وأنه قد يقود صاحبه إلى مهالك من الكذب والافتراء الذي يهوي به في النار.
6- العدل ولو في الغضب: يجب على المسلم أن يضبط نفسه حتى في ساعة الغضب، فلا يتكلم بكلمة ظلم أو افتراء يعض عليها أنامله يوم القيامة.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث من الأحاديث التي تُعنى ببناء المجتمع المسلم على الأخلاق الفاضلة، وقطع دابر الفتن والعداوات بين الناس.
- فيه تأكيد على مبدأ المسؤولية الفردية في الإسلام، فلا تزر وازرة وزر أخرى.
- يندرج تحت الحديث النهي عن التعصب القبلي الجاهلي الذي كان يثير الحروب والمنازعات.
أسأل الله تعالى أن يحفظ ألسنتنا من الزلل، وأن يجنبنا الفرى والبهتان، وأن يرزقنا الصدق في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.