رأيت جهنم يحطم بعضه بعضا ورأيت عمرا يجر قصبه

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث العظيم الذي رواه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، وله أهمية كبيرة في بيان بعض مشاهد الآخرة وعاقبة المخالفين لشرع الله.

---

أولاً. شرح المفردات:

● «يحطم بعضه بعضا»: أي يتدافع بعض أجزائها ومعالمها بعضها ببعض من شدة الزحام والامتلاء بالعصاة، أو من شدة لهيبها وعنفها. والحطم: الكسر الشديد.
● «عمرا»: هو عمرو بن لحي الخزاعي، وهو من سادات العرب في الجاهلية وكان يسكن مكة، وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام في جزيرة العرب وابتدع عبادة الأوثان.
● «يجر قصبه»: القصَب (بفتح الصاد) هي الأمعاء. والمعنى: أنه يُسحب بأمعائه في نار جهنم عقاباً له على فعله.
● «سيب السوائب»: السائبة في الجاهلية كانت الناقة أو البعير الذي يُترك لا يُركب ولا يُحمل عليه ولا يُشرب لبنه، تَقرباً إلى الآلهة! وهذا من ابتداع عمرو بن لحي.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن رؤيا صادقة رآها، وهي من أنواع الوحي، حيث رأى مشاهد من عذاب جهنم وعقاب أهلها.
1- «رأيت جهنم يحطم بعضه بعضا»: هذه الرؤيا تظهر عظمة جهنم وهولها، وأنها مملوءة بالعصاة حتى كأن أجزاءها تتصادم وتتكسر من شدة الامتلاء والازدحام. وهذا تصوير لشدة العذاب وكثرة الداخلين فيها، نسأل الله العافية.
2- «ورأيت عمرا يجر قصبه»: هذا بيان لعقاب خاص لرجل محدد هو عمرو بن لحي، الذي كان سبباً في ضلال العرب وعبادتهم للأصنام بعد دين إبراهيم الحنيفية. فكان عقابه في النار أن يُجر بأمعائه، وهو عذاب مهين ومُقْصَد، ليكون عبرة لكل من يبتدع في الدين ما ليس منه، ويسير على نهجه في الإضلال.
3- «وهو أول من سيب السوائب»: هنا يبين النبي صلى الله عليه وسلم السبب المباشر لعذاب هذا الرجل، ألا وهو الابتداع في الدين. فـ"السائبة" كانت من بدع الجاهلية التي اخترعها، حيث كانوا يتركون بعض الأنعام لأصنامهم، حراماً الانتفاع بها. وهذا العمل مخالف لشرع الله الذي أباح الانتفاع بالأنعام، وهو نوع من تحريم ما لم يحرمه الله، وهو مشاركة لله في حقه في التحليل والتحريم.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- تحذير شديد من الابتداع في الدين: الحديث يصور بشاعة عاقبة المبتدعين الذين يشرعون في الدين ما لم يأذن به الله، وهم أشد عذاباً في النار؛ لأنهم ليسوا ضالين فقط، بل يضلون غيرهم. فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
2- المنزلة الخطيرة للمُضلين: أن من كان سبباً في ضلال الناس، فإنه يتحمل وزر ضلالهم ووزر من ضل بسببه إلى يوم القيامة، كما جاء في القرآن: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].
3- إثبات رؤيا الأنبياء: وأنها حق ووحي من الله تعالى، فهي من أنواع الوحي التي يراها النبي صلى الله عليه وسلم في منامه لتكون عبرة وتحذيراً للأمة.
4- بيان حقيقة الدعوات الجاهلية: أن كثيراً من تقاليد الجاهلية وعباداتها الباطلة ما هي إلا بدع محدثة، ليس لها أصل في الفطرة ولا في شرع الأنبياء، بل أتى بها طغاة ومبتدعة.
5- التشويق إلى اتباع السنة والتحذير من البدعة: يجب على المسلم أن يتلقى دينه من الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، ويحذر من أي قول أو فعل لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- عمرو بن لحي هو الذي أحضر idols (الأصنام) إلى جزيرة العرب، وأولها "هُبَل" الذي نصبه في جوف الكعبة.
- الحديث يدل على أن صاحب البدعة يعذب في النار بعملته، فكما ابتدع "سيب السوائب" التي هي إضاعة للمال وتحريم للحلال، عُذب بإضاعة بدنه وإهانته بجر أمعائه.
- هذا الحديث جزء من مجموعة أحاديث رآها النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج، والتي فيها عَرَضَ عليه了很多 مشاهد من الجنة والنار.
أسأل الله تعالى أن يحفظنا من البدع والضلالات، وأن يثبتنا على السنة والهدى حتى نلقاه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.