نساء نداوي الكلمى ونقوم على المرضى في الغزو

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإني أقدم لكم شرحاً لهذا الحديث الشريف الذي روي عن السيدة حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، معتمداً على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
الحديث بتمامه:
عن حفصة قالت: كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن، فقدمت امرأة، فنزلت قصر بني خلف، فحدثت أن أختها كانت تحت رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، وكانت أختي معه في ست غزوات قالت: كنا نداوي الكلمى ونقوم على المرضى، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا بأس به، هو صدقة".
(أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني).

---

الشرح التفصيلي:

---

# 1. شرح المفردات:

● عواتقنا: العواتق جمع عاتق، وهي الشابة البالغة التي قاربت الزواج أو هي في سن الزواج.
● نمنع... أن يخرجن: أي كنا نحبسهن في البيوت ونتشدد في عدم خروجهن، خوفاً عليهن أو حفاظاً عليهن.
● قصر بني خلف: مكان معروف في المدينة المنورة.
● غزا مع رسول الله ﷺ ثنتي عشرة غزوة: أي شارك في اثنتي عشرة معركة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
● نداوي الكلمى: نعالج الجرحى والمصابين في المعارك.
● نقوم على المرضى: نخدمهم ونتولى رعايتهم وعلاجهم.

---

# 2. شرح الحديث:

تبدأ السيدة حفصة رضي الله عنها الحديث بوصف العادة الاجتماعية السائدة بين المسلمين الأوائل، حيث كانوا يمنعون نساءهم الشابات من الخروج من البيوت، حرصاً على حيائهن وسداً لذرائع الفتنة.
ثم قدمت إلى المدينة امرأة (وهي أسماء بنت يزيد الأنصارية كما في روايات أخرى)، ونزلت في مكان معروف. هذه المرأة حدثت بقصة أختها (أو صاحبتها) التي كانت زوجة لأحد الصحابة المجاهدين، الذي بلغت غزواته مع الرسول صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة. وكانت هذه المرأة المجاهدة تخرج مع زوجها في بعض هذه الغزوات (ست غزوات) لتقوم بأعمال عظيمة، هي:
● مداواة الكلمى: أي علاج الجرحى وتضميد جراحهم، وهذا يحتاج إلى خروج ومباشرة للرجال في ساحة المعركة.
● القيام على المرضى: رعايتهم، وتقديم الطعام والشراب والدواء لهم.
ثم إن هذه المرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم خروجها لهذه الأعمال، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه "لا بأس به"، أي أنه جائز ومباح شرعاً، بل إنه "صدقة"، أي عمل صالح وعبادة يتقرب بها إلى الله، لما فيه من الإحسان إلى المسلمين وتخفيف آلامهم.

---

# 3. الدروس المستفادة والفقه في الحديث:

● جواز خروج المرأة للجهاد وخدمة المجاهدين: الحديث دليل واضح على مشروعية خروج المرأة للمشاركة في الغزو والجهاد إذا دعت الحاجة إلى ذلك، بشرط الالتزام بالضوابط الشرعية من الحجاب والعفة وعدم الخلوة، ووجود المحرم أو الجماعة الآمنة.
● العمل التطوعي والإحسان إلى المسلمين: بيان أن أعمال البر والإحسان والخدمة الاجتماعية ليست حكراً على الرجال، بل هي مجال للتنافس بين جميع المسلمين رجالاً ونساءً.
● رفع الحرج والحظر المتولد من العادة: النبي صلى الله عليه وسلم هنا يرفع الحرج الذي تولد من العادة الاجتماعية (منع العواتق من الخروج)، ويبين أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل بالتحريم، خاصة إذا كان في هذا الخروج مصلحة راجحة للمسلمين.
● أن عمل المرأة خارج بيتها ليس محرماً بذاته: إنما التحريم يكون إذا اقترن بمحذور شرعي كالاختلاط الفاسد أو التبرج أو إضاعة الحقوق الزوجية والأسرية. أما إذا كان للضرورة أو المصلحة العامة وكان مع соблюدة الضوابط، فهو جائز بل قد يكون مندوباً إليه أو واجباً إذا توقف عليه أمر مهم.
● المرأة شقيقة الرجل في الكثير من الواجبات والفضائل: فهي تداوي وتخدم وتجاهد في سبيل الله حسب طاقتها وقدرتها.

---

# 4. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث من أدلة أهل العلم على مشروعية عمل المرأة في المجال الطبي والتمريضي خاصة، فهو من أقدس المهن لأنها تقوم على الرحمة والإحسان.
- الضوابط الشرعية لخروج المرأة وعملها مستفادة من نصوص أخرى، أهمها: أن يكون العمل في غير اختلاط فاسد، وأن تلتزم بالحجاب الشرعي، وألا يكون فيه تضييع لواجباتها الأساسية كزوجة وأم، وأن يكون العمل مباحاً أو مشروعاً في ذاته.
- قول النبي صلى الله عليه وسلم "هو صدقة" يرفع من قيمة هذه الأعمال ويجعلها من أبواب القربى إلى الله تعالى، مما يشجع النساء على المشاركة في خدمة المجتمع في المجالات التي تناسبهن.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.