كان رسول الله ﷺ إذا شيع جيشا فبلغ عقبة الوداع قال: أستودع الله دينكم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث الشريف الذي ذكر يُظهر جانباً من رحمة النبي ﷺ وحرصه على أمته، وهو درس عظيم في التوكل على الله والاستعانة به في كل شأن.

---

الحديث ومصدره:

روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والنسائي، وغيرهم عن عبد الله بن يزيد الخطمي رضي الله عنه.

---

1. شرح المفردات:

* شيّع جيشاً: أي ودّعهم وخرج معهم لتوديعهم ووداعهم والدعاء لهم عند انطلاقهم للغزو أو الجهاد.
* عقبة الوداع: هو مكان معروف على طريق المدينة المنورة إلى الشام، وكان آخر موضع يرى منه المسافرون المدينة، فكان الناس يودعون فيه المسافرين. ويُسمى أيضاً "أعلى الوداع".
* أستودع الله: أي أطلب من الله تعالى أن يحفظ ويحرس ويصون. والوديعة هي ما يُترك عند شخص لأمانته ليحفظه.
* دينكم: عقيدتكم وإيمانكم، وخوفه عليهم من الزيغ أو الشبهات.
* أمانتكم: يشمل هذا المعنى الواسع كل ما اؤتمن عليه المسلم، من أموال وعهود ومواثيق وأسرار، وكذلك الأمانة الكبرى وهي التكليف والخلافة في الأرض.
* خواتيم أعمالكم: آخر أعمالكم التي تختمون بها حياتكم. وخاتمة العمل هي التي يوزن بها، فالعبرة بخواتيم الأعمال.

---

2. شرح الحديث:

كان من هدي النبي ﷺ أنه عند توديع الجيش المتوجه للجهاد في سبيل الله، وكان يوصيهم ويدعو لهم. فإذا بلغوا مكان "عقبة الوداع" - وهو مكان الافتراق والتحذير من مخاطر الطريق - وقف وقال لهم هذا الدعاء العظيم.
ومعنى قوله ﷺ: «أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم» هو:
"أطلب من الله تعالى أن يكون هو الحفيظ لكم، والمحاسب عليكم، وأن يحفظ عليكم إيمانكم وعقيدتكم من أن تتزلزل في خضم المعارك والمشقات، وأن يحفظ أماناتكم فلا تضيعونها أو تخونونها، وأن يختم لكم بخير، فيتوفاكم وهو راض عنكم، وأن يجعل آخر أعمالكم صالحة مقبولة".
فهو دعاء جامع يلمس أهم ما يخافه المسلم على نفسه: ضعف الإيمان، تضييع الأمانة، وسوء الخاتمة.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- الاستعانة بالله والتوكل عليه: التعليم العملي من النبي ﷺ أن نستودع الله أمورنا كلها، فمهما بلغت قوة الإنسان وبأسه، فهو ضعيف لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله.
2- حرص القائد على رعيته: يظهر الحديث مدى حرص النبي ﷺ وخوفه على أصحابه، ليس على أبدانهم فقط، بل على قلوبهم وإيمانهم وأخلاقهم، فهذه هي الجوهر.
3- أهمية حفظ الدين والأمانة: جمع النبي ﷺ بين الدين والأمانة، لأن الدين أمانة الله عند العبد، والأمانة (بمعناها العام) هي دين العبد عند الناس. فحفظهما من أعظم المقاصد.
4- الاهتمام بخاتمة العمل: تذكير المسلم بأن النجاة ليست ببداية العمل فحسب، بل بحسن الختام، فيجب أن يداوم على الاستعانة بالله أن يثبته على الحق حتى الممات.
5- الدعاء للمسلمين: سنة نبوية عظيمة وهي الدعاء لإخواننا المسلمين، وخاصة الغزاة والمجاهدين والمبتعثين والمسافرين، بأن يحفظ الله عليهم دينهم وأخلاقهم.
6- أن الجهاد لا يقتصر على القتال فقط: بل هو أيضاً جهاد للنفس في حفظ الإيمان والأمانة وسط ظروف الحرب الصعبة.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* هذا الدعاء مستحب لكل مسافر، وليس فقط للغزاة، فيستحب أن يدعو به من يودع مسلماً، أو يدعو به المسافر لنفسه.
* ينبغي للمسلم أن يكثر من هذا الدعاء: "اللهم احفظ علي ديني الذي هو عصمة أمري، واحفظ علي دنيائي التي فيها معاشي، واحفظ علي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر".
* الحديث يربي في المسلم المراقبة الذاتية، فاستحضار أن الله هو الوكيل والحفيظ يمنعه من التقصير في الأمانة أو التفريط في الدين.
أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا وأمانتنا، وأن يختم لنا بخاتمة السعادة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.