اتخذ النبي خاتما من فضة ونقش فيه محمد رسول الله

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث الشريف الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو من الأحاديث الصحيحة التي أخرجها الإمام البخاري في صحيحه، يحمل في طياته دروساً عظيمة في الحكمة والدعوة والتأسي بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

---

أولاً. شرح المفردات:

● يَكتُبَ إلى الروم: أي يبعث رسالة إلى ملك الروم (وهو قيصر).
● مختوماً: أي عليه ختم أو طابع يضمن أنه لم يفتح أو يزور.
● خاتماً من فضة: حلقة من معدن الفضة تُلبس في الإصبع للختم.
● نقش فيه: حُفر على سطحه كتابة.
● العجم:泛指非阿拉伯人،此处特指波斯人和罗马人。
● كسرى: لقب ملك الفرس.
● قيصر: لقب ملك الروم.
● النجاشي: ملك الحبشة.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن النبي الكريم أراد أن يرسل كتباً (رسائل) إلى ملوك العالم المعاصرين لدعوتهم إلى الإسلام. فلما هم بذلك، أُخبر بأن هؤلاء الملوك – وتحديداً قيصر ملك الروم – لديهم عادة دبلوماسية، وهي أنهم لا يعترفون بأي رسالة رسمية ولا يقرؤونها إلا إذا كانت مختومة بخاتم الملك المرسل، ليكون دليلاً على صحتها وأصالتها وليمنع تزويرها.
فما كان من النبي الحكيم صلى الله عليه وسلم إلا أن استجاب لهذا المتطلب الدبلوماسي، فاتخذ خاتماً لهذا الغرض. وقد اختار له مادة الفضة، وهي من المواد النبيلة التي تليق بمقام الرسالة والنبوة، دون مغالاة أو إسراف. وكان أنس رضي الله عنه يصف بياض هذا الخاتم وصفاً دقيقاً حتى كأنه يراه في يده الشريفة صلى الله عليه وسلم.
والأعظم من ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقش على خاتمه اسماً شخصياً أو شعاراً قبلياً، بل نقش عليه هويته الحقيقية ورسالته الخالدة: «محمد رسول الله». فجعل من الخاتم أداة لدعوته، ووسيلة للإعلان عن رسالته في كل كتاب يرسله.
وتذكر الروايات الأخرى أن هذه الكتب لم تكن موجهة إلى قيصر فقط، بل أيضاً إلى كسرى (ملك فارس)، والنجاشي (ملك الحبشة الصالح)، وغيرهم من عظماء ذلك الزمان.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- الحكمة في الدعوة إلى الله: يظهر هذا الحديث أعلى درجات الحكمة التي كان يتصف بها النبي صلى الله عليه وسلم. فلم يرفض عادة الملوك بدعوى أنها بدعة أو أنها لا طائل منها، بل استخدمها كوسيلة نافعة لتحقيق غاية نبيلة، وهي إيصال دعوة الحق إلى الناس كافة. قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}.
2- مراعاة العرف والعادات: من الحكمة مراعاة أعراف المخاطبين وعاداتهم ما دامت لا تخالف الشرع، لتكون الدعوة مقبولة ومؤثرة.
3- البساطة وعدم التكلف: اختيار الخاتم من الفضة وليس من ذهب، يوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزهد والبساطة وعدم الترف، حيث كان الذهب محرماً على الرجال في الإسلام.
4- الاعتزاز بالهوية الإسلامية: نقش "محمد رسول الله" كان إعلاناً واضحاً عن هوية المرسِل وصفته، فهو ليس ملكاً ولا زعيماً قبلياً، بل هو رسول الله إلى العالمين.
5- عالمية الدعوة الإسلامية: لم تكن الدعوة محصورة في العرب، بل كانت رسالة موجهة إلى كل البشر، إلى الفرس والروم والحبشة وغيرهم.
6- استخدام الوسائل المتاحة: استخدام الخاتم للختم كان وسيلة عملية متاحة في ذلك العصر، مما يدعونا اليوم لاستخدام الوسائل العصرية (كوسائل التواصل) لنشر الخير والدعوة بحكمة.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الخاتم بقي عند الخلفاء الراشدين من بعد النبي صلى الله عليه وسلم (أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم)، وكان يسمى "خاتم النبوة".
- وقعت حادثة مؤسفة في عهد عثمان رضي الله عنه، حيث سقط الخاتم في بئر ولم يعثر عليه، فحزن الناس لذلك حزناً شديداً.
- كانت رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك تحوي نفس المضمون: الدعوة إلى الإسلام بكلمات واضحة وحكيمة، مثل قوله في كتابه لهرقل: "أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين".
أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.