أثقل ساقي ابن مسعود في الميزان من أحد

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أهلاً وسهلاً بك، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم، له دلالات بليغة في نظر الإسلام للإنسان وقيمته، سأشرحه لك جزءاً جزءاً بإذن الله.
### أولاً. تخريج الحديث ومصدره
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير، وقال الحافظ المنذري: "إسناده جيد"، وهو حسن.

### ثانياً. شرح المفردات
* قرة بن إياس: هو صحابي جليل، راوي الحديث.
* عبد الله بن مسعود: هو الصحابي الجليل، ابن أم عبد، كان من السابقين إلى الإسلام، ومن أكثر الصحابة علماً وفقهاً، وكان قريباً جداً من النبي ﷺ يخدمه.
* رقى في شجرة: صعد عليها.
* يجتني منها سواكًا: يقطف منها عوداً ليتسوك به (يستعمل السواك).
* دقة ساقيه: رقتهما ونحافتهما. وكانت ساقا ابن مسعود رضي الله عنه نحيفتين.
* «لهما أثقل في الميزان من أحد»: أي أن هاتين الساقين النحيفتين لابن مسعود، يوم القيامة، ستكون أثقل وأعظم وزناً في ميزان حسناته من جبل "أُحُد" الشهير الذي في المدينة المنورة، وذلك لما تحملاه من الطاعات والسعي في الخير.

### ثالثاً. شرح الحديث
يصور لنا هذا الحديث المشهد التالي:
1- الموقف: كان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فوق شجرة، يجني منها غصناً ليتسوك به، فانكشفت ساقاه النحيفتان.
2- رد الفعل البشري: تعجب بعض الصحابة من دقة ساقيه وضحكوا عليها، وهذا ضحك بريء ناتج عن المفاجأة وليس سخريةً مقصودةً تؤذي المشاعر، وإلا لما كانوا صحابة.
3- التوجيه النبوي الأعظم: هنا يتدخل النبي ﷺ ليصحح مفهوماً خطيراً ويغرس قيمة عظيمة. لم يعنفهم بشدة، بل وجههم توجيهاً إيجابياً رائعاً. لقد نقل نظرتهم من المظهر الخارجي الهزيل إلى القيمة الحقيقية والباطنية الجليلة. فالساقان النحيفتان تحملان جسداً ملأه الإيمان، وسعتا في طاعة الله، وذهبتا إلى المساجد، وقامتا الليل، وحملتا صاحبهما لنصرة الدين. هذه الأعمال هي التي تثقل الميزان، لا حجم العضلات أو جمال المظهر.

### رابعاً. الدروس المستفادة والعبر
1- معيار القيمة الحقيقي: يضع الحديث أسساً واضحة لتقييم الناس. فالمعيار عند الله وعند رسوله ﷺ هو التقوى والعمل الصالح، وليس الشكل أو المال أو الجاه أو القوة البدنية. قال تعالى: *{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}* [الحجرات: 13].
2- الرد على السخرية بالحكمة: علمنا النبي ﷺ كيف نرد على من يسخر من عيب خلقي فينا، لا by الغضب أو الانتقام، بل by تذكيرهم بأن قيمة الإنسان في دينه وأخلاقه.
3- التربية على عدم الاهتمام بالمظاهر: يحذر الحديث من الغرور بالقوة الجسمية أو الجمال الظاهري، فهي أمور زائلة لا تنفع صاحبها يوم القيامة إذا خلا قلبه من الإيمان.
4- تقدير أهل العلم والفضل: كان ابن مسعود رضي الله عنه عالماً فقيهاً، فالنبي ﷺ دافع عنه ورفع من قدره، ليُعلّم الأمة أن تُجلّ العلماء والصالحين، ولا تنظر إلى هفواتهم أو أمورهم الخَلقية.
5- عظمة حسنات المؤمن: الميزان يوم القيامة ميزان حقيقي توزن فيه الأعمال، وأعمال القلوب من الإيمان والإخلاص والتقوى قد تثقل بأضعاف مضاعفة، حتى تفوق أوزان الجبال الشامخة. وهذا يدل على عظمة فضل الله وكرمه.
6- جواز الضحك البريء: الضحك في ذاته ليس محرماً إذا كان على شيء مباح ولم يتضمن أذى أو استهزاءً بمقدسات أو كشفاً لعورات.

---

خامساً:

معلومات إضافية مفيدة
* لماذا جبل أحد بالتحديد؟ لأن جبل أحد هو أكبر جبال المدينة وأعظمها شأناً، وكان معلوماً للجميع، فضرب له المثل بأعظم شيء يرونه لتكون الصورة أوضح وأبلغ في أذهانهم.
* الموازين أنواع: ذكر العلماء أن الموازين يوم القيامة أنواع، منها ما يوزن به الأعمال ذاتها، ومنها ما يوزن به صاحب العمل. وهذا الحديث يدل على أن العبد نفسه يوزن، وأعضاؤه تشهد بما عملت، فالعين توزن بالنظر، والرجل توزن بالمشي، وهكذا.
أسأل الله أن يجعلنا ممن يثقل ميزانهم بالأعمال الصالحة، وأن لا ينظر إلى صورنا وأشكالنا، ولكن إلى قلوبنا وأعمالنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.