عمار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيه بشارة وعلامة من علامات نبوته، وإليك الشرح المفصل:

---

أولاً. شرح المفردات:

● ائتيا أبا سعيد: اذهبا إلى أبي سعيد الخدري (صحابي جليل).
● في حائط لهما: في بستان أو حديقة لهما.
● يسقيانه: يرويان الأرض ويسقيان الزرع.
● فاحتبى: جلس معتمداً على أليتيه، وجمع ركبتيه بيديه أو بشيء يربطه عليهما.
● ننقل لبن المسجد: ننقل الطين أو اللبن (قوالب البناء) لبناء المسجد النبوي.
● لبنة لبنة: قطعة قطعة.
● مسح عن رأسه الغبار: أزال النبي صلى الله عليه وسلم الغبار عن رأس عمار.
● ويح عمار: كلمة تفيد التحسر والشفقة، كأن يقول: يا للأسف لعمار أو يا حسرتا على عمار.
● الفئة الباغية: الجماعة الظالمة المعتدية الخارجين على الحق.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه أرسل عكرمة (مولاه) وعلي بن عبد الله (ابن عباس) ليذهبا إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ليسمعا منه الحديث مباشرة.
فذهبا إليه فوجداها هو وأخاه يعملان في سقي بستانهما. فلما رآهما أبو سعيد، ترك عمله وجلس جلسة المتفرغ للحديث والاستماع، تكريماً لهما وللحديث الذي سيرويه.
ثم بدأ أبو سعيد رضي الله عنه يروي قصته مع الصحابة أثناء بناء المسجد النبوي في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. كان الصحابة ينقلون قوالب الطين (اللبن) لبناء المسجد، وكان كل واحد ينقل لبنة واحدة في كل مرة، إلا الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنه، فكان يجتهد ويتحمل مشقة نقل لبنتين في كل مرة، مما يدل على غيرته وحبه للعمل الصالح وإعانة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة، وقد غطى الغبار رأسه من شدة العمل والتعب، تقدم إليه النبي صلى الله عليه وسلم بحنان وأزال الغبار عن رأسه تكريماً له وتقديراً لجهده. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمات فيها نبؤة عظيمة: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار».
ومعنى هذا: يا للأسف على عمار، ستقتله جماعة من الناس باغية ظالمة خارجة على الحق. وهؤلاء القوم سيدعوهم عمار إلى طاعة الله واتباع الحق، ولكنهم سيدعونه إلى الكفر والضلال والنار (أي بقتله وخروجه عن الطاعة).

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- فضل عمار بن ياسر رضي الله عنه: فهو من السابقين إلى الإسلام، ومن الذين عذبوا في الله، وكان مجاهداً غيوراً على الدين، وقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
2- علامة من علامات النبوة: فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حادثة ستقع بعد سنوات طويلة، وهي مقتل عمار على يد جماعة باغية. وقد تحققت هذه النبؤة في معركة صفين (سنة 37 هـ) حيث قتل عمار رضي الله عنه وهو يقاتل في صف الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ضد جيش معاوية رضي الله عنه (وقد اختلف العلماء في تكفير تلك الفئة، ولكنهم بغوا وخرجوا على الإمام الحق). وكان عمر عمار حينها قد تجاوز التسعين سنة، فتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم.
3- بيان حال أهل البغي: وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون إلى النار، أي بفعلهم وبغيهم وخروجهم على الإمام الحق الذي اجتمعت عليه الأمة.
4- الحث على العمل والإتقان: اجتهاد عمار رضي الله عنه في بناء المسجد هو قدوة في الإخلاص والإتقان في العمل وخدمة الدين.
5- تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحنوه: حيث شارك الصحابة العمل بنفسه، وكان يمر عليهم ويساعدهم ويشجعهم، ويمسح الغبار عن رأس عمار تكريماً له.
6- حرص السلف على طلب العلم: حرص ابن عباس رضي الله عنهما (وهو حبر الأمة) على إرسال تلاميذه لسماع الحديث مباشرة من الصحابة، وحرص أبي سعيد على التفرغ لتعليمهم رغم انشغاله بالعمل.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
- قتل عمار رضي الله عنه في معركة صفين، وكان مقتله فاجعة عظيمة على المسلمين، لأنه تحققت فيه نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم الناس أن معسكر معاوية هو الفئة الباغية في تلك الواقعة.
- يستدل أهل السنة بهذا الحديث على معتقدهم في عدم الخروج على الأئمة، وترك القتال في الفتنة، وأن من خرج على الإمام الجامع للأمة فهو باغٍ وظالم.
أسأل الله أن يرزقنا فهم سنة نبيه والعمل بها.
والله أعلم.