عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين وإمام المتقين.
أهلاً وسهلاً بك أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن ينفعنا بما نسمع وبما نعلم.
هذا حديث عظيم رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والنسائي في سننهما، وغيرهم، وصححه الألباني. وهو حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه، وفيه من الفوائد والعبر ما ينبغي لكل مسلم أن يتأمله.

---

أولاً. شرح المفردات:

● استعملني: جعلني عاملاً له، أي والياً على منطقة الطائف.
● يعرض لي شيء في صلاتي: يحدث لي أمر يشغلني ويُربكني.
● حتى ما أدري ما أصلي: حتى أنسي ما أقرأ وما أفعل في الصلاة من شدة الوسواس.
● رحلت: سافرت وقطعت المسافة.
● ادنه: اقترب مني.
● على صدور قدمي: أي جلس متخشعاً متواضعاً، وكأنه جلس على ركبتيه.
● تفر في فمي: نفث نفخة خفيفة من ريقه المبارك صلى الله عليه وسلم بدون بصق.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يحدثنا الصحابي الجليل عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عن تجربة شخصية مر بها عندما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف. فبينما هو يؤدي الصلاة، أصبح يعاني من وساوس شديدة تشغله عن خشوعه وتصل إلى درجة أنه ينسى ما يقرأ وما يفعل في صلاته تماماً.
لم يستهن بهذا الأمر أو يتغاض عنه، بل أدرك أنه عائق خطير يعوقه عن عبادة ربه، فسافر مسافراً من الطائف إلى المدينة المنورة ليشكو حاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم وعرفه قائلاً: (ابن أبي العاص؟) تأكيداً للمعرفة وحسن الاستقبال. فلما أخبره بالمعضلة التي يعاني منها في صلاته، شخّص النبي صلى الله عليه وسلم الداء فوراً وقال: (ذاك الشيطان).
ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقترب منه، فجلس الصحابي بين يديه جلسة المتواضع الخاشع. فقام النبي صلى الله عليه وسلم بعلاجه بأمرين:
1- الضرب على الصدر: وهو ضرب خفيف للتفريج والتحفيز وطرد الشياطين.
2- التفل في فمه: وهو نفث ريقه الشريف صلى الله عليه وسلم، الذي فيه بركة وشفاء بإذن الله.
وقام بهذا الفعل ثلاث مرات، دلالة على المبالغة في العلاج والتأكيد على طرد الشيطان. ثم قال له: (اخرج عدو الله) وهو أمر مباشر للشيطان بالخروج والابتعاد. ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى عمله وإلى بلده.
وقد كانت النتيجة مذهلة، كما أخبر الراوي نفسه، حيث حلف بالله قائلاً (فلعمري) أنه لم يعد الشيطان يختلط به أو يوسوس له في صلاته بعد ذلك العلاج النبوي.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- وسوسة الشيطان في الصلاة حقيقة لا مجاز: وهذا الحديث أصل كبير في إثبات أن الوسواس في العبادة، وخاصة الصلاة، هو من عمل الشيطان الذي يحاول إفساد العبادة على المسلم.
2- حرص السلف على إتقان العبادة: لم يقل عثمان رضي الله عنه "هذا أمر بسيط"، بل سافر من الطائف إلى المدينة ليعالج هذه المشكلة، مما يدل على عظم حرصهم على صحة عبادة الله تعالى.
3- جواز السفر لقضاء الحوائج الدينية والعلمية: وسافر مسافة طويلة ليعالج مشكلة دينية.
4- التشخيص الصحيح للمشكلة نصف العلاج: حيث حدد النبي صلى الله عليه وسلم مصدر المشكلة فوراً.
5- العلاج النبوي للوسواس: وهو بالتعوذ بالله من الشيطان، وطلب العون من الله، والاستعانة ببعض الأذكار والأفعال المشروعة كالنفث (بدون بصق) كما في الحديث.
6- بركة النبي صلى الله عليه وسلم وفضلُه: حيث كان لمسة يده ونفثه سببا في الشفاء بإذن الله.
7- التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب: عثمان أخذ بالأسباب وسافر واشتكى، والنبي صلى الله عليه وسلم عالجه بأسباب حسية شرعية.
8- أن ولاية الأمر لا تمنع من طلب العلم وحل المشكلات الدينية: فهو والٍ ومع هذا لم يمنعه منصبه من السؤال والبحث عن حل.

---

رابعاً. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث يدخل في باب "الرقية الشرعية"، وقد أجاز العلماء الرقية بالقرآن والأذكار المشروعة وبالمباح من الكلمات.
- النفث في الرقية: هو نفخ لطيف بدون ريق، أو مع ريق خفيف، وهو جائز ومشروع كما في هذا الحديث وفي حديث أبي سعيد الخدري في رقية اللديغ.
- ينبغي للمسلم إذا أصابه وسواس في الصلاة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتفل عن يساره ثلاثاً (كما في حديث أبي هريرة)، وأن يجتهد في إهمال هذا الوسواس وعدم الالتفات إليه.
أسأل الله أن يعيذنا من وساوس الشيطان، وأن يقبل صلاتنا وصالح أعمالنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.