ترك صلاته من أجل فرس

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً لفهم سنة نبيه ﷺ والعمل بها.
هذا حديث شريف رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وغيرهما، عن الصحابي الجليل أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وهو حديث عظيم فيه دلالة واضحة على سماحة الإسلام ويسره.

---

أولاً. شرح المفردات:

● الأهواز: منطقة معروفة في إيران اليوم، وكانت تتبع العراق قديماً.
● نضب عنه الماء: نقص وجف.
● خلى فرسه: أطلقها ترعى من غير أن يربطها.
● له رأي: هنا بمعنى له غلو وتشدد في الدين، أو تسرع في الحكم على الناس.
● ما عنفني أحد: ما وبخني أو عاقبني بقسوة أحد.
● متراخ: بعيد المنال.
● تيسيره: تسهيله ورفقه وعدم تشديده.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يحكي لنا الراوي الأزرق بن قيس قصة وقعت له ولصحبه، حيث كانوا جالسين على شاطئ نهر في منطقة الأهواز، وكان الماء قد جف منه. فبينما هم كذلك، جاء الصحابي الجليل أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه على ظهر فرسه، فنزل ليصلي، وأطلق فرسه لترعى دون أن يربطها، فانطلقت الفرس هاربة. فلما انطلقت، قطع أبو برزة صلاته وتبعها حتى أدركها وأمسك بها، ثم عاد فأتم صلاته من حيث قطعها.
وكان في المجلس رجل متشدد في دينه، متسرع في أحكامه، فأنكر على أبي برزة فعله، وقال للحاضرين متعجباً: "انظر إلى هذا الشيخ! كيف يقطع صلاته من أجل فرس!" فسمعه أبو برزة رضي الله عنه، فأقبل عليه موضحاً له سبب فعله، ومذكراً إياه بأنه صحب النبي ﷺ ورأى كيف كان يتسامح ويرفق في أمور الدين، ولم يعنفه أحد على ترك الصلاة منذ عهد النبي ﷺ. وبرر فعلته بأن بيته بعيد، وأنه لو أتم الصلاة وترك الفرس تهرب، لما استطاع اللحاق بها، ولأضاع وقتاً طويلاً في البحث عنها، ولما وصل إلى أهله إلا في وقت متأخر من الليل، مما يسبب له مشقة عظيمة.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- يسر الإسلام وسماحته: هذا الحديث من أظهر الأدلة على سماحة الدين الإسلامي ومراعاته للظروف والحاجات البشرية. فالصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ومع ذلك أبيح قطعها لأجل الحاجة الدنيوية الملحة التي تؤدي إلى مشقة كبيرة.
2- مراعاة المقاصد والمصالح: فعل أبي برزة رضي الله عنه يدل على فقهه العميق؛ حيث قدّم المصلحة الراجحة (اللحاق بالفرس لتجنب المشقة الكبرى وضياع الوقت) على مصلحة استمرار الصلاة في تلك اللحظة. وهو فهم مقاصدي عميق للشريعة.
3- ردع المتسرعين والمتشددين: الحديث تحذير واضح من التسرع في الحكم على أفعال الآخرين دون فهم ظروفهم ودوافعهم. فذلك الرجل الذي أنكر على أبي برزة كان يفتقر إلى الفقه والتروي، بينما كان أبو برزة وهو الصحابي الجليل أعلم منه بسنة النبي ﷺ وروح الشريعة.
4- جواز قطع النافلة لأمر مهم: الصلاة التي كان يصليها أبو برزة هي صلاة نافلة (غير الفريضة)، وذلك لأنه كان مسافراً والمسافر لا تجب عليه سوى الفريضة. وقد أجمع العلماء على جواز قطع النافلة لأي عذر شرعي، كخوف ضياع مال، أو خوف فوته، أو لضرورة أخرى.
5- فضل صحبة النبي ﷺ وفهم سنته: قول أبي برزة: "وذكر أنه قد صحب النبي ﷺ فرأى من تيسيره" تذكير عظيم بأن خير من فهم روح الشريعة وعمقها هم الصحابة رضوان الله عليهم، الذين عاشوا مع النبي ﷺ وتعلموا منه مباشرة.
6- الأخذ بالرخص عند الحاجة: الشريعة مليئة بالرخص التي شرعت لرفع الحرج عن المكلفين، والأخذ بها عند وجود سببها هو من تحقيق مقاصد الشريعة وهو مطلوب شرعاً.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

● حكم قطع النافلة: ذهب جمهور العلماء إلى جواز قطع النافلة مطلقاً حتى من غير عذر، لكن الأولى والأكمل أن لا يقطعها إلا لعذر. أما الفريضة فلا يجوز قطعها إلا لأسباب شديدة جداً، كالخوف على نفس أو مال معتبر.
● الفرق بين الفريضة والنافلة: الفريضة لها حرمة أعظم، وشروطها وأحكامها أشد، بخلاف النافلة التي تتسع فيها الرخصة أكثر.
● العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:رغم أن القصة كانت عن فرس، لكن العبرة بعموم الموقف وليس بخصوص السبب. فكل حاجة ملحة تسبب مشقة كبيرة يجوز لأجلها قطع النافلة.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يرزقنا الاقتداء بنبينا ﷺ وصحابته الكرام في فهمهم العميق لسماحة الإسلام ويسره.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.