من هجر أخاه فوق ثلاث وهو يعلم فمات دخل النار

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، حياكم الله و بياكم أيها السائل الكريم، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث الشريف الذي ذكر رواه الإمام أبو داود في سننه، والإمام الترمذي، وغيرهم، وهو حديث صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وفيه توجيه نبوي عظيم في حفظ العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وقطع دابر الشحناء والقطيعة.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

* يهجر: الهجر هو القطيعة وترك الكلام والمودة، وهو ضد الصلح والوئام.
* فوق ثلاثة: أي أكثر من ثلاثة أيام، بحيث إذا مضت ثلاثة أيام على الهجران يجب أن ينهيه.
* باء بإثمه: أي رجع وحمل إثم هذه القطيعة والمخالفة للشرع وحده. والباء هنا بمعنى الرجوع والحمل، كقولهم "باء بغضب من الله".

---

ثانياً. شرح الحديث ومعناه الإجمالي:

يُرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى أدب إسلامي رفيع في معاملة المسلمين بعضهم بعضاً. فهو ينهى أن يستمر المسلم في هجران أخيه المسلم وقطيعته لمدة تزيد على ثلاثة أيام.
والحكمة في تحديد الثلاثة أيام أنها مدة كافية لتهدئة النفوس وتخفيض حدة الغضب، فإذا تجاوزتها أصبحت قطيعة مجردة تفتت في أواصر المجتمع وتُذهب بمحبة القلوب.
ثم يبين النبي صلى الله عليه وسلم الواجب العملي على من أراد أن ينهي هذه القطيعة، فيقول: «فإذا لقيه سلم عليه ثلاث مرار». أي أن الذي يريد أن يقطع دابر الهجران يأخذ بزمام المبادرة ويبادر أخاه بالسلام عند لقائه، ولا ينتظر أن يبادره الآخر. بل يكرر محاولة إفشاء السلام وإظهار اللطف حتى ثلاث مرات، لعل قلب الآخر يلين ويرد السلام.
فإذا بادر المسلم أخاه بالسلام بهذه الصورة (ثلاث مرات) «كل ذلك لا يرد عليه»، أي أن المُهجَر أبى أن يرد السلام ويقبل الصلح مع كل هذه المحاولات المتكررة، «فقد باء بإثمه»، أي انتقل الإثم والوزر من المبادِر بالسلام إلى المُهجِر الذي أصر على القطيعة والعناد، فأصبح هو الآثم وحامل وزر هذه المعصية.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والفَوائد:

1- تحريم إطالة مدة الهجران بين المسلمين: فالهجر فوق ثلاثة أيام محرم، لأنه إضرار بالنفس وبالأخ المسلم وبكيان المجتمع الإسلامي.
2- الحث على المبادرة بالإصلاح: الفضل والأجر العظيم يكون للمبادر بالخير والمسارع إلى كسر حاجز القطيعة، وهو من علامات كمال الإيمان وحسن الخلق.
3- السلام عنوان المصالحة: جعل النبي صلى الله عليه وسلم إفشاء السلام هو أداة إنهاء الهجران، لأن السلام تحية المؤمنين في الجنة، وهو رمز للمحبة والأمان.
4- الصبر والمحاولة المتكررة: ليس المطلوب المحاولة مرة واحدة ثم اليأس، بل يُشرع تكرار المحاولة بالسلام ثلاث مرات، تأكيداً على الجدية في الإصلاح وإعطاء فرصة للطرف الآخر.
5- انتقال الوزر: من رحمة الله تعالى أن جعل الإثم ينتقل إلى الطرف المعاند بعد إعذارٍ وإنذار، فمن قام بواجبه سَلِم من الإثم، وحُمّله من تقاعس عن واجب الرد والإصلاح.
6- الحفاظ على تماسك المجتمع: هذا التوجيه النبوي يبني مجتمعاً متماسكاً قوياً، تذوب فيه الخلافات الشخصية سريعاً ولا تترك لتعكر صفو العلاقات العامة.

---

رابعاً. تنبيهات مهمة:

* الهجران الذي نهى عنه الحديث هو الهجران في أمور الدنيا والشحناء الشخصية. أما الهجران لسبب شرعي، كهجران العصاة والفساق لزجرهم وإرجاعهم إلى الحق، فهذا جائز بل قد يكون واجباً إذا كان فيه مصلحة شرعية، ولا يدخل في هذا النهي.
* ليس المقصود حصر المحاولة في ثلاث مرات بالضبط لا تزيد ولا تنقص، بل المقصود بيان وجوب المبادرة والمحاولة الجادة حتى يئس من القبول، والثلاثة عدد للتقريب والكثرة المعتادة في الإعذار.
* على المسلم أن يتخلى عن الكبر والعناد، وأن يكون سريع الرجوع إلى الحق، سليم الصدر لإخوانه.
نسأل الله تعالى أن يجعل قلوبنا سليمة لا تحمل حقداً ولا ضغينة، وأن يعيننا على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.