ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النبوي الشريف شرحًا وافيًا، مستندًا إلى كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

نص الحديث:

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ، ثُمَّ تَقْتَرِضُ الدَّمَ مِنْ ثَوْبِهَا عِنْدَ طُهْرِهَا، فَتَغْسِلُهُ وَتَنْضَحُ عَلَى سَائِرِهِ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ".
وفي الرواية الأخرى: "مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ؛ فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا: فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا".

---

1. شرح المفردات:

* تَحيض: يأتيها الحيض، وهو الدم الخارج من رحم المرأة في وقت معروف.
* تَقتَرِض الدمَ: تزيل الدم وتكشطه عن الثوب. والاقتراض هنا بمعنى الأخذ والإزالة.
* عند طُهرها: عندما تنقطع عنها الدورة الشهرية وتغتسل.
* تَنْضَحُ: ترش بالقليل من الماء. والنضح هو الرش الخفيف.
* على سائره: على باقي أجزاء الثوب التي لم يصبها الدم.
* ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد: لم يكن لديها سوى ثوب واحد تلزمه.
* بريقها: ريقهها، وهو اللعاب.
* فَقَصَعَتْهُ: دلكته وحكته بقوة لإزالة أثر الدم. والقَصْع: الدَّلْك والشَّدُّ.

---

2. المعنى الإجمالي للحديث:

يصف هذا الحديث حال نساء الصحابة رضي الله عنهن، وخاصة الزوجات منهن في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كن في فقرٍ وتقشفٍ شديد، فلم تكن تمتلك الواحدة منهن سوى ثوب واحد تلبسه في جميع أحوالها، بما في ذلك أيام حيضها.
فإذا حاضت المرأة ووقع على ثوبها شيء من دم الحيض، لم يكن لديها ثوب آخر تغيره به، فكانت تنتظر حتى تطهر من الحيض، ثم تقوم بإزالة أثر الدم عن الثوب بطريقة بسيطة، فتحك مكان النجاسة بظفرها بعد أن تبلله بريقها (لأن الريق مطهر ويُساعد على إزالة الأثر)، ثم تغسل مكان الدم فقط غسلاً يزيل عين النجاسة. وبعد ذلك، ترش على باقي الثوب رشًا خفيفًا بالماء (لأنه طاهر لم يصبه شيء)، فتصلي فيه بعد ذلك.

---

3. الدروس المستفادة والفقهية:

1- بيان حال الصحابة وزهدهم: يظهر الحديث مدى الزهد والفقر الذي كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، حيث لم تكن المرأة تملك إلا ثوبًا واحدًا، ومع ذلك كنَّ في غاية القناعة والرضا، ولم يمنعهن الفقر من العبادة والطاعة.
2- التيسير ورفع الحرج في الشريعة: الشرع الإسلامي جاء بالتيسير ورفع المشقة. فهذه الصورة التي وردت في الحديث كانت رخصة للمسلمة عند الحاجة وعدم وجود البديل، دفعًا للحرج والمشقة عنها.
3- طهارة الريق: دلَّت الرواية الثانية على أن ريق الإنسان طاهر، بل ومُطَهِّر يُستعان به في إزالة النجاسات الحسية إذا كان ريقًا طاهرًا (خاليًا من النجاسة).
4- فقه إزالة النجاسة: الحديث أصل في كيفية تطهير الثوب من دم الحيض. والمقصود هو إزالة عين النجاسة (أي أثرها اللوني والفراغي)، فإذا زال أثرها بالغسل أو بالدلك حتى لم يبق لها لون ولا رائحة ولا طعم، فإن الموضع يطهر. ولا يشترط أن يُغسل الثوب كله، بل يغسل مكان النجاسة فقط، وما سواه يكتفي برشه بالماء إذا أرادت أن تصلي فيه، وهذا من قبيل المسح الذي يجزئ في طهارة الثوب الطاهر الذي لم يصبه شيء.
5- جواز الصلاة في الثوب الذي أصابته نجاسة ثم طُهرت: إذا زالت عين النجاسة بالكلية بطريقة صحيحة، فإنه يجوز الصلاة في ذلك الثوب، وهو طاهر.
6- الفرق بين عين النجاسة والجزء الطاهر من الثوب: الفقهاء يستدلون بهذا الحديث على أن النجاسة إذا كانت في جزء من الثوب أو البدن، فإنه يكتفي بتطهير ذلك الجزء المعين، ولا يجب غسل كل الثوب أو كل البدن.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* هذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو من أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.
* الحالة المذكورة في الحديث هي لحالة الضرورة والحاجة. أما من كان لديه ثوبان فأكثر، فيجب عليه أن يتحرى الطهارة ويصلي في ثوب طاهر غير الذي أصابته النجاسة، عملاً بالأصل العام في وجوب اجتناب النجاسات.
* الفقهاء يختلفون في حكم النضح (الرش) على باقي الثوب: فمنهم من يرى أنه مستحب للاحتياط، ومنهم من يرى أنه لا بد منه ليكون المسح قد عم الثوب كله، والراجح -والله أعلم- أنه كان لفعل البركة والاحتياط، وإلا فالأصل طهارة باقي الثوب.
* هذا الحديث من الأدلة التي يستشهد بها على سماحة الإسلام وواقعيته، حيث راعى ظ