مَثَلي ومَثَل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، وابن ماجه، وغيرهم، وصححه الألباني.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● حصير: سَجَّاد أو بساط بسيط مُصنوع من الخوص أو القصب.
● أثَّر في جنبه: ترك علامات واضحة على جنبه الشريف من خشونة الحصير وعدم نعومته.
● فراشاً أوثر: سريراً أو فراشاً أكثر نعومة وراحة.
● يوم صائف: يوم شديد الحرارة.
● استظل تحت شجرة: جلس في ظلها ليحمي نفسه من حر الشمس.
● راح: انطلق ومضى في سيره.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فوجده نائماً على حصير خشن، ليس بينه وبينه شيء يلينه، حتى أن هذا الحصير الخشن قد ترك آثاره وعلامات على جنب النبي صلى الله عليه وسلم من شدة خشونته.
فتأثر عمر رضي الله عنه -وهو الذي يعلم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه وعند الناس- لهذه المنظر، وقال له بتعظيم وإجلال: يا نبي الله، لو أنك اتخذت لنفسك فراشاً أو سريراً ألين وأكثر راحة من هذا الحصير؟
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب البليغ الذي يرسم فلسفة الإسلام في التعامل مع الدنيا، فقال: «مَا لِي وَللدُّنْيَا؟» أي: أي علاقة لي بالدنيا وزينتها ومتاعها الفاني؟ إنما أنا فيها عابر سبيل.
ثم ضرب صلى الله عليه وسلم مثلاً يوضح به حقيقة الدنيا وحقيقة موقفه منها، فقال: «مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ فَتَرَكَهَا».
فالمسافر في يوم قائظ شديد الحر، لا يجد ملجأ من الشمس سوى ظل شجرة، فيجلس تحتها وقتاً قصيراً يستريح فيه من عناء السفر وحر الشمس، ثم يقوم ويواصل سيره، تاركاً تلك الشجرة وراءه، غير مبال بها، ولا متعلق قلبه بها، لأنها ليست مقصودة لذاتها، بل كانت مجرد وسيلة للراحة المؤقتة.
فهكذا الدنيا في يد المؤمن: محطة راحة مؤقتة وعابرة، يستعين بها على سفره إلى الآخرة، لا مقصودة لذاتها، ولا مستغرقة لقلبه.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- زهد النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه: فقد كان صلى الله عليه وسلم يختار حياة البساطة والخشونة، مع قدرته على أن يعيش في النعيم، تأسياً بأنبياء الله من قبله، وليكون قدوة لأمته في عدم التكالب على الدنيا.
2- حقيقة الدنيا في ميزان الإسلام: الدنيا دار عبور وليست دار قرار، وهي وسيلة لا غاية، ومتاع زائل لا يستحق أن يُصرف فيه القلب والجهد.
3- العلاقة الصحيحة مع الدنيا: أن ينظر المسلم إلى الدنيا كما ينظر المسافر إلى ذلك الظل المؤقت: يأخذ منها ما يقيم أوده ويعينه على طاعة ربه، دون أن يستغرق فيها أو يتعلق قلبه بها.
4- رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وحرصه على هدايتهم: حيث ضرب لهم الأمثال ليوصل الحقائق الكبيرة إلى أفهامهم وأذهانهم بأيسر الطرق.
5- حرص الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته: كما ظهر من موقف عمر رضي الله عنه وتأثره الشديد لحال النبي صلى الله عليه وسلم.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث أصل عظيم في باب "الزهد في الدنيا" و"عدم التكالب عليها".
- ينبغي للمسلم أن يوازن بين هذا الزهد وبين السعي في الأرض والأكل من الطيبات، فليس الزهد معناه ترك العمل أو إهمال النفس، بل هو عدم جعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.
- كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش هذه الفلسفة عملياً، فكانت حياته كلها تواضعاً وزهداً مع القدرة، فكان ينام على الحصير، ويخصف نعله بيده، ويجلس على الأرض، ولا يرد طيباً إذا قدم إليه.
نسأل الله أن يرزقنا قلوباً زاهدة في الدنيا، مشتاقة إلى الآخرة، وأن يجعلنا من المتأسين بنبينا صلى الله عليه وسلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.