صفيّة تزور النبي في اعتكافه ويقول: إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فسأقوم بشرح هذا الحديث النبوي الشريف شرحًا وافيًا وفق منهج أهل السنة والجماعة، مستندًا إلى كبار شراح الحديث.

---

نص الحديث:

عن علي بن الحسين: أنّ صفيّة زوج النبيِّ ﷺ أخبرته أنها جاءتْ إلى رسول الله ﷺ تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدّثتْ عنده ساعة، ثم قامتْ تنقلبُ فقام النبيّ ﷺ معها يقلِبُها، حتّى إذا بلغتْ باب المسجد عند باب أمِّ سلمة مرَّ رجلان من الأنصار فسلّما على رسول الله ﷺ، فقال لهما النبيُّ ﷺ: "على رِسْلكما، إنّما هي صفية بنت حُييّ". قالا: سبحان الله يا رسول الله، وكَبُر عليهما، فقال النبيُّ ﷺ: "إنَّ الشيطان يبلغُ من ابن آدم مبلغ الدّم، وإني خشيتُ أن يقذف في قلوبكما شيئًا".

---

1. شرح المفردات:

● اعتكافه: لزوم المسجد لطاعة الله تعالى بنية التقرب إليه.
● تنقلبُ: ترجع إلى بيتها.
● يقلبها: يخرج معها ويرافقها لتوصيلها.
● باب أم سلمة: مكان قريب من مساكن أمهات المؤمنين حول المسجد النبوي.
● على رسلكما: كلمة تقال لطلب التمهل والإبطاء، وهنا بمعنى "انتظرا" أو "تمهلا".
● كبُر عليهما: استعظما الأمر وأنكراه، فاستغربا كيف يشك النبي في إيمانهما.
● مبلغ الدم: أي مدخله ومجازه في جسم الإنسان، فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
● يقذف: يلقي ويلقي الوساوس.

---

2. شرح الحديث:

يحدثنا هذا الحديث عن موقف نبوي كريم يظهر فيه حرص النبي ﷺ على تطهير القلوب وحمايتها من وساوس الشيطان.
ففي أثناء اعتكاف النبي ﷺ في المسجد في العشر الأواخر من رمضان -وهي وقت خصّه النبي بالعبادة والانقطاع لله- جاءته زوجته صفية رضي الله عنها لزيارته والتحدث معه. وبعد أن قضت معه وقتًا، همّت بالعودة إلى بيتها، فقام النبي ﷺ ليخرج معها ويودعها -وهذا من كمال خلقه وحسن عشره لأهله-.
وعندما وصلا إلى باب المسجد، بالقرب من بيت أم سلمة، مرّ بهما رجلان من الأنصار فسلّما على النبي ﷺ. وهنا، وبحرص نبوي على سلامة قلوب المؤمنين، نادى عليهما النبي قائلاً: "على رسلكما" (أي تمهلا)، ثم عرّف بهما بأن هذه المرأة هي زوجته صفية بنت حيي (أي أنها محرم له وليست أجنبية). فاستغرب الرجلان هذا التوضيح وقالا: "سبحان الله يا رسول الله!" تعجبًا واستنكارًا أن يظن بهما سوءًا أو شكًا. فبيّن لهما النبي ﷺ حكمته من ذلك بقوله: "إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا".

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف: فقد زارت صفية النبي ﷺ وهو معتكف، وتحدثت معه، ولم ينكر عليها ذلك، مما يدل على جواز ذلك بشرط ألا يشغلها عن عبادة اعتكافها.
2- استحباب تشييع الرجل لزوجته وإكرامها: فالنبي ﷺ قام بنفسه ليوصلها إلى باب المسجد، وهذا من كمال الأخلاق وحسن المعاشرة.
3- سد الذرائع ومنع الفتنة: وهو من أعظم الدروس في هذا الحديث. فالنبي ﷺ لم ينتظر حتى يوسوس الشيطان للرجلين، بل بادر بالتوضيح والبيان سدًا لأي طريق للشك أو الريبة.
4- الشيطان حريص على إفساد قلوب المؤمنين: كما في قوله ﷺ: "إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم". وهذا تشبيه بليغ يصور كيفية تسلل وساوس الشيطان إلى قلب الإنسان كما يتسرب الدم في العروق.
5- حسن الظن بالمؤمنين: ظهر ذلك في ردّ الرجلين حينما قالا: "سبحان الله!"، مما يدل على كمال إيمانهما ونقاء سريرتهما.
6- الحكمة والرفق في تعليم الناس: فقد عامل النبي ﷺ أصحابه بأدب ورفق، وبيّن لهم الحكمة من تصرفه دون تأنيب أو توبيخ.
7- عظم خطر الوسوسة: فالشيطان قد يلقي في قلب المؤمن أفكارًا سيئة حتى لو كان صالحًا، لذا وجب الحذر والتحذير.

---

4. معلومات إضافية:

- هذا الحديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، مما يدل على صحته وقوته.
- فيه دليل على أن الاعتكاف لا يمنع من زيارة الأهل والأصحاب، بل يجوز للمعتكف أن يزوره أهله ويقضوا حوائجهم المعتادة.
- وفيه أيضًا بيان للعفة والطهارة التي كان عليها الصحابة، حتى أن النبي ﷺ خشي عليهم من مجرد الوسوسة.
- قوله ﷺ: "إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم" يدل على شدة تسلط الشيطان على الإنسان، لذا يجب على المسلم أن يحذر من وساوسه دائمًا ويستعيذ بالله منه.

أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يرزقنا فهم سنة نبيه ﷺ والعمل بها، وصلى الله على