عليكم بالسكينة عليكم بالسكينة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا و أن يزيدنا علما وفقها في الدين، وأن يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا ويجعلنا هداة مهتدين.
هذا الحديث الذي ذكرتَ رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو حديث عظيم يُبيّن هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم في السير والسفر، خاصة في المشاعر المقدسة، ويدعو إلى الرفق والسكينة وعدم الإيضاع والإسراع الذي يسبب الفوضى والأذى.

---

أولاً. شرح المفردات:

● بدء الإيضاع: الإيضاع هو الإسراع الشديد في السير والعدو، وأصله من الوَضْع، وهو الإسراع.
● حافتي الناس: يعني جانبَي الطريق أو أطراف الجماعة.
● العِصِيَّ: جمع عَصًا، وهي العصي التي كانوا يحملونها.
● الجِعَاب: جمع جِعَابة، وهي القِرْبة التي يُحفظ فيها الماء أو اللبن.
● القِعَاب: جمع قَعْب، وهو إناء من خشب يشرب فيه.
● تقعقعت: صَوَّتت واصطكت ببعضها من شدة السرعة والحركة.
● نفروا بالناس: أي أثاروا الفزع وأسرعوا، فأسْرع الناس معهم خوفاً أو تبعاً لهم.
● ذِفْرَى ناقته: الذِّفْرَى هي مؤخرة الرحل (الذي يوضع على ظهر البعير للركوب)، وقيل: هي عُكْبُوتا الناقة (وهما العظمان الناتئان عند مؤخرة ظهرها).
● حاركها: الحارك هو أعلى الظهر عند التقاء الكتفين، وهو أقصى ما يمكن أن تصل إليه يد الراكب وهو جالس.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن سبب بداية عادة الإسراع الشديد (الإيضاع) عند الخروج من منى أو عرفة، فيقول إن هذا الفعل كان يصدر من أهل البادية الذين لم يعتادوا الزحام، فكانوا يقفون على جانبي الطريق (حافتي الناس) ويعلِّقون أمتعتهم من عصي وقرب وأوانٍ خشبية.
فلما انطلق الناس للرحيل (نفروا)، تحركت تلك الأمتعلقة واصطكت ببعضها (تقعقعت) ففزعت منها الإبل، فأسرعتْ هي ومن عليها، وأسرع هؤلاء البدو خوفاً على أمتعتهم أو لطبيعتهم في السرعة، فأسْرع الناس كلهم تبعاً لهم، فحدثت الفوضى والإيضاع.
وفي مقابل هذه الصورة، يقدم لنا ابن عباس رضي الله عنهما الصورة المثلى من هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يمسك بزمام ناقته ويُبطئ من سيرها، حتى أن مؤخرة الرحل التي هو جالس عليها كانت تلامس أعلى ظهر الناقة (الحارك) من شدة بطء سيرها وتأنيها.
وفي هذا الموقف المهيب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يده –وكأنه يخاطب الجميع– داعياً ومأمراً أمته: «يا أيها الناس، عليكم بالسكينة»، مكرراً ذلك تأكيداً لأهميته.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- الحث على السكينة والوقار: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة في كل شيء،尤其在 المشاعر المقدسة وأماكن العبادة، فالسكينة من أسباب قبول العمل وتحصيل الخشوع.
2- الرفق بالخلق وعدم إيذائهم: النهي عن الإيضاع ليس لمجرد كونه سرعة، بل لأنه يؤدي إلى الفوضى وإزعاج الآخرين وإيذائهم، أو إفزاع دوابهم، مما يسبب الضرر.
3- قدوة النبي صلى الله عليه وسلم العملية: لم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر القولي، بل قدم القدوة العملية بنفسه، فكان أبطأ الناس سيراً وأكثرهم تأنياً وسكينة.
4- التأني في الأمور كلها: الحديث يعمم درس التأني وعدم العجلة في جميع شؤون الحياة، فالعجلة من الشيطان.
5- بيان سماحة الإسلام ويسره: الإسلام يحرص على أن تكون مناسكه وأحوال أتباعه مبنية على اليسر والطمأنينة، لا على العنت والعجلة والاضطراب.
6- معرفة أسباب الظواهر الاجتماعية: الحديث يذكر لنا أصل ظاهرة الإيضاع، مما يعلمنا تحليل الأمور ومعرفة جذورها قبل الحكم عليها أو معالجتها.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث أصل عظيم في آداب السير والذهاب إلى المساجد والمشاعر، وفيه تطمين للنفس وإصلاح للقلب.
- السكينة المأمور بها هي الطمأنينة والوقار وعدم العجلة، وهي من الصفات التي ينبغي للمسلم أن يتخلق بها في عباداته ومعاملاته.
- يستفاد من الحديث أيضاً أهمية توجيه الناس وتعليمهم برفق، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث ناداهم ونصحهم بصوت مسموع وهدوء.
أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا السكينة والوقار في جميع أمورنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.