أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن ينفعنا بما ندرس ونفهم من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
الحديث الذي طلبت شرحه: حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه، وغيره، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو حديث عظيم فيه درس بليغ في خلق الوفاء وحسن القضاء.

---

1. شرح المفردات:

* استسلف: طلب سَلَفاً، أي استقرض شيئاً ليؤديه بعد مدة.
* بكراً: البكر هو الفتى من الإبل الذي دخل في السنة الثانية من عمره وقويت أسْنانه، وهو دون "الثني" في السن والقيمة.
* إبل من الصدقة: الإبل التي جاءت إليه صلى الله عليه وسلم من أموال الزكاة.
* جملاً خياراً رباعياً: الجمل الخيار هو الفاضل الجيد. والرباعي: هو الجمل الذي أتم أربع سنوات ودخل في الخامسة، وهو من أفضل سن الإبل وأغلاها ثمناً، لأنه بلغ كامل قوته ونفعه.
* أقضي الرجل: أردّ إليه دينه، وأوفيه حقه.
* خيار الناس أحسنهم قضاء: أفضل الناس وأكثرهم فضلاً هو من يحسن أداء الدين والوفاء بالعهد.

---

2. شرح الحديث:

يحدثنا أبو رافع رضي الله عنه، وهو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، عن موقف عملي عاشه مع النبي الكريم:
1- الاستقراض: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج إلى جمل (بكر) فاستقرضه من رجل، على أن يرده إليه لاحقاً.
2- وجود الوفاء: جاءت إبل الصدقة (الزكاة) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتذكر دينه فوراً، ولم ينتظر حتى يطالبه صاحبه. وهذا من شدة أمانته ووفائه صلى الله عليه وسلم.
3- التوجيه بالوفاء: أمر النبي صلى الله عليه وسلم خادمه أبا رافع أن يذهب إلى صاحب الدين ويعطيه حقه، أي يعطيه جملاً مقابلاً للبكر الذي استلفه.
4- التردد في البداية: وجد أبو رافع أن الإبل التي جاءت من الصدقة كلها جمال كبيرة (خيار رباعي) وهي أفضل وأغلى من "البكر" الذي استلفه النبي صلى الله عليه وسلم. فتردد في إعطاء الرجل جملًا قيمته أعلى من دينه، وخشي أن يكون في ذلك إسراف أو عدم دقة.
5- التعليم النبوي: هنا جاء التوجيه النبوي العظيم ليصحح هذا الفهم، ويؤسس لقاعدة أخلاقية كبرى. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي الرجل الجمل الرباعي الممتاز قائلاً: «أعطه إياه؛ فإن خيار الناس أحسنهم قضاء».
لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم بأن يوفي الدين بمثله فقط، بل أمر بإعطاء الأفضل. ليرسخ معنى أن الوفاء الحقيقي ليس هو أداء الحق فحسب، بل أداؤه على أحسن وجه، بل والإضافة عليه إذا أمكن، إكراماً لصاحبه وتطييباً لخاطره.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- فضل الوفاء وحسن القضاء: الحديث يرفع من قيمة خلق الوفاء ويجعل الإحسان في أداء الحقوق من علامات الخيرية وكرم الأخلاق. المؤمن الحقيقي هو من يفي ويحسن في الوفاء.
2- الاستقراض والحاجة جائز: الحديث يدل على جواز الاقتراض عند الحاجة، وهو ليس عيباً، بل من المعاملات الجائزة التي تنظم حياة الناس.
3- سرعة الوفاء وعدم المماطلة: النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتظر حتى يأتي صاحب الدين، بل بادر هو بأداء الحق بمجرد تمكنه منه. وهذا درس في اجتناب المماطلة في سداد الديون التي هي من آفات المجتمع.
4- الإحسان في المعاملة: ليس المطلوب هو أداء الحد الأدنى من الحقوق، بل المطلوب هو الإحسان والإضافة إن أمكن. إعطاء الجمل الرباعي مكان البكر هو إحسان وتكريم، يجعل قلب الدائن مطمئناً ويقوي أواصر المحبة بين الناس.
5- الحكمة من أموال الزكاة: الحديث يدل على أن الإمام (الحاكم) له أن يتصرف في أموال الزكاة في المصارف الشرعية، ومنها سد دين الغارمين (المدينين العاجزين عن السداد). وقد استقرض النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة المسلمين، فكان سداد دينه من بيت المال (الصدقة) أمراً مشروعاً.
6- التأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم: يجب على المسلم أن يتخذ من هديه صلى الله عليه وسلم قدوة في كل أموره، خاصة في الأمانة والصدق وحسن المعاملة.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* هذا الحديث أصل عظيم في باب "الحسنى" و"الزيادة في القضاء"، حيث يستحب للقادر أن يزيد عند الوفاء على ما استلف، إكراماً للشخص وحسنًا للقضاء.
* الفقهاء استدلوا بهذا الحديث على جواز الاقتراض واستحباب إضافة شيء عند الرد إذا كان القصد الإحسان والتكريم، لا الربا المحرم.
* فيه بيان لأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس، حتى في أموره الشخصية، كان المثل الأعلى في الصدق والأمانة والكرم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا حسن الأخلاق والوفاء بكل الحقوق.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.