ابتاع رسول الله ﷺ من أعرابي جزورا بوسق من تمر الذخرة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين وإمام المتقين.
أما بعد، فهذا حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وصححه الألباني.

---

شرح المفردات:

● جزورا أو جزائر: الجَزور هي الناقة التي تُنحر، والجمع جَزائر، والمقصود هنا ناقة أو نوق.
● بوسق من تمر الذخرة: الوسق مكيال يساوي ستين صاعًا، وتمر الذخرة هو نوع جيد من التمر، وقيل هو العجوة.
● واغدراه: كلمة تعجب وتنديد بالغدر، أي: يا له من غدر!
● نهمه الناس: زجروه وأنَّبوه ووبخوه.
● لا يفقه عنه: لا يفهم ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم.
● أسلفيناه: أعطيناها إياه سلفًا أو دينًا لتقضي ديننا.
● أوفاه الذي له: أعطاه حقه كاملاً.
● المطيبون: الذين يتحلون بالخلق الحسن ويحسنون المعاملة.

---

شرح الحديث:

يحدثنا هذا الحديث عن موقف نبوي كريم، حيث اشترى النبي صلى الله عليه وسلم من أعرابي ناقة (أو نوق) بثمن هو وسق من تمر الذخرة (وهو تمر جيد). فلما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته ليدفع الثمن، لم يجد التمر الذي ظن أنه موجود، فخرج إلى الأعرابي وأخفه بالحال، واعتذر له explaining أنه لم يجده.
لكن الأعرابي -وفي طبعه الجفاء وسرعة الغضب- صاح قائلاً: "واغدراه!" يتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغدر، والمفترض أن يكون هذا اتهامًا خطيرًا، خاصة وأنه موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
هنا غضب الصحابة رضي الله عنهم من هذا الاتهام الجائر، وأخذوا يزجرون الأعرابي ويوبخونه قائلين: "قاتلك الله، أيغدر رسول الله؟!" لكن النبي صلى الله عليه وسلم، بحلمه وأخلاقه العظيمة، منعهم عن ذلك وقال: "دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالا" أي اتركوه؛ فصاحب الحق (وهو الأعرابي) له حق الكلام والتعبير حتى لو كان بطريقة غير لائقة.
كرر النبي صلى الله عليه وسلم محاولة الشرح للأعرابي، ولكن الأعرابي لم يفهم ويعقل، فكرر اتهامه، وكرر الصحابة زجرهم، وكرر النبي صلى الله عليه وسلم منعهم عنه بقوله: "دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالا".
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الأعرابي لا يفهم ولا يقتنع، لم يغضب أو يتعالى، بل فكر في حل عملي. أرسل أحد الصحابة إلى خولة بنت حكيم رضي الله عنها (وهي من نساء الصحابة المعروفات) يطلب منها إعطاءه وسق التمر دينًا ليدفعه للأعرابي، على أن يرده لها لاحقًا.
فاستجابت خولة رضي الله عنها على الفور، وأعطت التمر، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ودفعه للأعرابي كاملاً غير منقوص.

---

الدروس المستفادة والعبر:

1- الوفاء بالعهد والوعد: النبي صلى الله عليه وسلم يظهر أعلى درجات الوفاء بالعهد، حيث لم يقبل أن يتأخر في دفع الحق حتى لو كان السبب خارجًا عن إرادته.
2- الحلم وسعة الصدر: موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الأعرابي الجافي هو قمة الحلم والأناة. لم يغضب لاتهامه شخصيًا، بل تفهم حالة الطرف الآخر.
3- احترام حق الآخر في التعبير: قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لصاحب الحق مقالا" يعلمنا أن الدائن أو صاحب الحق له حق التعبير عن غضبه أو استيائه، حتى لو كان بطريقة غير مهذبة، ما دام لم يتعد الحدود.
4- الحرص على حل المشاكل عمليًا: вместо الغضب أو الجدال العقيم، بحث النبي صلى الله عليه وسلم عن حل عملي مباشر.
5- التعاون والتكافل الاجتماعي: استعانة النبي صلى الله عليه وسلم بخولة رضي الله عنها تظهر كيف يجب أن يتعاون المجتمع في قضاء الحوائج.
6- القدوة في الأخلاق: النبي صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في التعامل مع الناس، خاصة في المواقف الصعبة.
7- ثناء الله على الموفين المطيبين: ختم النبي صلى الله عليه وسلم الحديث ببيان فضيلة الوفاء وحسن الخلق، وأنهم "خيار عباد الله".

---

معلومات إضافية:

- هذا الحديث يرد على من يتهم الإسلام بعدم الاهتمام بالمعاملات المالية، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يظهر أقصى درجات الدقة والوفاء فيها.
- فيه دليل على مشروعية السلف (القرض الحسن) في قضاء حوائج الناس.
- وفيه بيان أن الوفاء بالعهد من صفات خيار عباد الله، وهو من الإيمان الكامل.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الموفين المطيبين، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.