رسول الله ﷺ يمشي في النخل ويبارك في ثمرها.

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، حياكم الله و بياكم أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا الحديث العظيم الذي ذكرته رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو حديث صحيح ثابت، وفيه عِبَرٌ ودروسٌ جليلة.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● وَسْقًا: الوَسْق هو مكيال معروف عند العرب، يساوي ستين صاعاً. والصاع يساوي تقريباً 2.04 كيلوغرام من القمح تقريباً. فالوسق إذن كمية كبيرة من التمر.
● اسْتَنْظَرَهُ: طلب منه أن يؤجل دينه وينظره إلى وقت آخر.
● جَدَّ لَهُ: قَطَفَ ثمر نخله وجمعه.
● أَوْفَى لَهُ: أعطاه حقه كاملاً غير منقوص.
● فَضَلَتْ لَهُ: زادت عن الدين الذي عليه، فبقيت له كمية إضافية.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبر الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن والده عبد الله بن حرام استشهد في غزوة أحد، وكان قد ترك عليه ديناً قدره ثلاثين وسقاً (كمية كبيرة من التمر) لرجل يهودي.
1- طلب الإنظار ورفض اليهودي: توجه جابر إلى الدائن اليهودي وطلب منه أن يمهلَه ويؤجل استحقاق الدين، لكن اليهودي رفض طلبه وأصر على السداد الفوري. وهذا يظهر شدة بخل اليهودي وقسوة قلبه، حيث إن المدين قد استشهد أبوه في سبيل الله.
2- التوسط النبوي الكريم: لم يجد جابر بُدّاً من اللجوء إلى وسيط كريم، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلب منه أن يشفع له لدى اليهودي ويطلب منه الإنظار. وهذا يعلمنا مشروعية التوسط والشفاعة في قضاء حوائج الناس.
3- رفض اليهودي لشفاعة النبي نفسه: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ليكلم اليهودي، فلم يقبل شفاعة أفضل الخلق، ورفض أن ينظره. بل اقترح عليه النبي أن يأخذ ثمر نخيل جابر لهذا العام (أي محصول النخيل) كسداد للدين، فرفض أيضاً. وهذا منتهى العناد والجحود.
4- بركة النبي صلى الله عليه وسلم: هنا تظهر معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وآية من آيات نبوته. دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بستان النخيل الخاص بجابر ومشى فيه، ثم أمر جابراً أن يقطف ثمر النخيل ويسدده لليهودي. فلم يبارك الله في الثمرة فحسب، بل جعلها تكفي لسداد الدين بالكامل وتزيد كثيراً.
5- وفاء الدين والفضل العظيم: عندما ذهب جابر ليجني الثمر، وجد أن ما في النخيل من تمر قد بلغ من الكثرة ما يكفي لسداد الدين كاملاً (30 وسقاً) ويتبقى له زيادة قدرها (17 وسقاً)، أي أن المجموع أصبح 47 وسقاً. هذه البركة كانت مباشرة بسبب مشي النبي صلى الله عليه وسلم في البستان ودعائه الخفي فيه.
6- إخبار عمر بن الخطاب: أمر النبي صلى الله عليه وسلم جابراً أن يخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذه المعجزة. وهذا يدل على مكانة عمر عند النبي وعلى فراسته وثقته به. وقد علل عمر رضي الله عنه ما حصل بقوله: "لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليباركن فيها". أي أن عمر كان يوقن أن مكان تطأه قدم النبي صلى الله عليه وسلم يمتلئ بركة.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- وجوفاء الدين وبركة الوفاء به: الحديث يؤكد على أهمية وفاء الدين وعدم التهاون فيه، وأن البركة تحل في مال من يحرص على سداد دينه.
2- جواز الاقتراض للحاجة: وأن الدين ليس عيباً إذا كان للضرورة والحاجة.
3- مشروعية الشفاعة والتوسط لقضاء حوائج المسلمين: والاستعانة بأهل الفضل والوجاهة في ذلك.
4- بركة النبي صلى الله عليه وسلم: وهي حقيقة ثابتة، فالله تعالى يجري البركات على يديه، وهي من معجزاته الدالة على صدق نبوته.
5- علو همة الصحابة: حيث إن جابراً لم يتهرب من دين أبيه، بل تحمله وسعى في سداده بشتى الطرق.
6- حسن خلقه صلى الله عليه وسلم: حيث لم يأنف من السعي بنفسه لقضاء حاجة أحد أصحابه، وهذا من تواضعه العظيم.
7- الثقة بأصحابه وإشراكهم في الفرح: حيث أمره النبي بإخبار عمر رضي الله عنه ليكون ذلك زيادة في إيمانه ويقينه.
8- فراسة الصحابة: كما ظهرت فراسة عمر رضي الله عنه ويقينه المطلق ببركة النبي صلى الله عليه وسلم.

---

رابعاً. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، حيث حصلت معجزة حسية مشاهدة.
- القصة تدل على أن بركة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في حياته، وهي مستمرة في اتباعه وسنته إلى يوم الدين.
- يستفاد منه أيضاً أن الدائن له حق المطالبة بدينه، ولكن الأفضل له التيسير على المعسر والإنظار إلى ميسرة.