من أعمر شيئًا فهو لمعمره محياه ومماته

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، يتعلق بأحكام الهبة والعمرى والرقبى، وهو من الأحاديث التي تمس الحاجة إليها في المعاملات بين الناس.
### أولاً. تخريج الحديث ومصدره
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الهبات، باب العمرى، برقم (1625)، كما رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي، وابن ماجة، وغيرهم من أئمة الحديث.
### ثانياً. شرح المفردات
● أعمر شيئًا: أي وهبه على سبيل العمرى. والعمرى هي: أن يقول الشخص لآخر: "أعمرتك هذا البيت" أو "هذه الأرض" أي جعلت لك منفعتها مدة عمرك.
● لمعمره: أي للشخص الذي وُهبت له العمرى (المُعْمَر).
● محياه ومماته: أي تصبح ملكاً له في حياته وبعد مماته، تورث عنه.
● لا ترقبوا: النهي عن الرقبى. والرقبى هي: أن يقول الشخص: "أرقبتك هذا البيت" أي هو لك ما عشت، فإذا مت فهو راجع إلي.
● سبيله: أي حكمه وحالته التي كان عليها، أي يرجع إلى الواهب بعد موت المُرَقَّب (الشخص الذي وُهبت له الرقبى).
### ثالثاً. شرح الحديث
يبيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حكمين مهمين:
1- حكم العمرى: كان الناس في الجاهلية وبداية الإسلام يعتقدون أن العمرى – وهي الهبة بمنفعة العمر – تنتهي بموت الشخص الذي وُهبت له، فترجع إلى الواهب أو ورثته. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبطل هذا الحكم، وقضى بأنها هبة تامة، فإذا قال الإنسان لأخيه: "أعمرتك هذا البيت" أي جعلته لك مدة عمرك، فإنها تصبح ملكاً تاماً للمُعْمَر (الذي أُعمر)، تبقى في يله حياته وبعد مماته، يتصرف فيها كيفما شاء، وتورث عنه لورثته. وهذا من باب إحكام المعاملة وإزالة النزاع.
2- حكم الرقبى: ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن معاملة أخرى كانت شائعة تسمى الرقبى، وهي أن يهب الشخص شيئاً لغيره على أن ينتفع به ما عاش، فإذا مات رجع إلى الواهب. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا ترقبوا» أي اتركوا هذه المعاملة ولا تفعلوها. ثم بين حكمها إذا وقعت فقال: «فمن أرقب شيئًا فهو سبيله» أي أن حكمها يبقى على ما اتفق عليه الطرفان، فترجع إلى الواهب بعد موت المُرَقَّب. والنهي عنها لكونها تسبب القطيعة والضرر، حيث يمنع الواهب ورثة الموهوب له من الميراث، وينتظر موته لاسترداد ماله، وهذا مما ينافي المروءة وحسن الصحبة.
### رابعاً. الدروس المستفادة والفقه في الحديث
1- إبطال عادات الجاهلية: جاء الإسلام ليهذب المعاملات ويبطل ما كان عليها الناس في الجاهلية من ظلم أو غرر أو نزاع.
2- الحكمة من جعل العمرى للمعمر مطلقاً: هذا من رحمة الإسلام وعدله، حيث جعل الهبة تامة حتى لا يطمع الواهب أو ورثته في عودة المال بعد موت الفقير المحتاج، فيقطعوا عنه المعروف وينتظروا موته.
3- تحريم النزاع والقطيعة: النهي عن الرقبى منعاً للنزاع والعداوة التي قد تنشأ بين الطرفين بسبب انتظار الموت.
4- أن الهبة إذا تمت بالقبض ولم يشترط الواهب شرطاً مردوداً، فإنها لا ترجع إليه، وهذا أصل عظيم في باب الهبات.
5- الفقه في الجمع بين النهي عن الرقبى وإبقاء حكمها إذا وقعت: وهذا من فقه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث نهى عن أصل المعاملة لِمَا فيها من مفسدة، ولكن إذا وقعت أخذاً بالعرف والعادة التي كانت بين الناس، حكم بها وأبقاها على ما اتفق عليه الطرفان حتى لا يضيع حق أحد.

---

خامساً:

معلومات إضافية
- جمهور العلماء (من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) على أن العمرى إذا قال: "أعمرتك" فهي للمعمر مطلقاً، محياه ومماته، واستدلوا بهذا الحديث.
- اختلف الفقهاء في الهبة التي يشترط فيها الواهب استردادها إذا مات الموهوب له، والصحيح المنع لما فيه من الضرر والغرر.
- هذا الحديث من قضايا النبي صلى الله عليه وسلم التي قضى بها بين الناس وأصلح بها ذات البين.
أسأل الله أن يفقهنا في الدين، ويعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.