كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن ينفعنا بما نسمع ونقرأ. هذا الحديث الذي ذكر رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو حديث شريف يحمل في طياته معاني عظيمة وعبراً جليلة. وإليك الشرح المفصل له على النحو التالي:

---

1. شرح المفردات:

* كأني أنظر: أي كأني الآن أرى بعيني. هذه الصيغة (كأني) تدل على قوة التخيل ووضوح الصورة في ذهن الراوي، وكأن الأمر يحصل أمامه الآن.
* الغبار ساطعًا: "الساطع" هو الغبار الكثير الذي يرتفع ويعلو وينتشر في الجو بشكل واضح.
* زقاق بني غنم: "الزقاق" هو الطريق أو الحارة الضيقة. و"بني غنم" هي حي من أحياء المدينة المنورة.
* موكب جبريل: "الموكب" هو الجماعة أو المجموعة التي تسير معًا، وهنا يقصد جماعة من الملائكة بقيادة جبريل عليه السلام.
* بني قريظة: هم طائفة من اليهود كانوا يسكنون في ضواحي المدينة، وقد نقضوا عهدهم مع رسول الله ﷺ في غزوة الأحزاب (الخندق)، فجهز رسول الله ﷺ لقتالهم.

---

2. شرح الحديث:

يخبرنا الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه، الذي كان يخدم رسول الله ﷺ، عن مشهد عاينه بنفسه. يقول أنس: كأن المشهد حاضر أمام عينيه الآن، حيث رأى غبارًا كثيفًا وعاليًا قدثار في طريق (حارة) بني غنم في المدينة المنورة.
وهذا الغبار لم يكن ناتجًا عن رياح أو عاصفة، بل كان ناتجًا عن موكب وسير جبريل عليه السلام ومعه كتائب من الملائكة الكرام، وكانوا متوجهين مع رسول الله ﷺ ومعه جيش المسلمين إلى حصن بني قريظة بعد غدرهم.
السياق التاريخي: بعد انتهاء غزوة الأحزاب مباشرة، ونزول الوحي على النبي ﷺ بأن الله أمره بالتوجه إلى بني قريظة لمحاسبتهم على غدرهم، قال رسول الله ﷺ لأصحابه: (ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة). فخرج المسلمون مسرعين، فبعضهم صلى العصر في الطريق (أدركته الصلاة فصلاها ثم تابع السير) وبعضهم أخره حتى وصل إلى بني قريظة فصلى هناك بعد خروج الوقت، فلم يعنف النبي ﷺ واحدة من الطائفتين، مما يدل على اجتهاد كل منهما في فهم الأمر وطاعة النبي ﷺ.
وفي هذا المشهد، يرى أنس بن مالك أثر هذا الموكب العظيم من الملائكة الذين بعثهم الله تعالى لنصرة رسوله والمؤمنين وإرهاب أعدائهم، وكان ظهور الغبار دليلاً مرئيًا على وجودهم وقوتهم، وهو أمر خارق للعادة أُريَ لأنس رضي الله عنه.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- نصرة الله لرسوله وأوليائه: من أعظم الدروس أن الله تعالى ينصر دينه ورسوله بطرق لا تخطر على بال، فبعث الملائكة لتقوية قلوب المؤمنين وإرهاب الكافرين.
2- اليقين بالغيب: المشهد يذكرنا بعالم الغيب الذي لا نراه، ولكننا نؤمن به. فالجيش كان ظاهره المسلمين، ولكن في الحقيقة كان معهم جند من الله لا تراهم الأعين.
3- عظمة النبي ﷺ ومكانته عند ربه: حيث خصه الله وجيشه بهذه المعجزة الباهرة، وهي مسيرة الملائكة معه في شكل مرئي (الغبار) لبعض أصحابه.
4- وجوب الوفاء بالعهود والعقود: كانت سبب الخروج هو نقض بني قريظة للعهد، مما يعلمنا أن الغدر والخيانة من أعظم الذنوب التي تستحق أشد العقاب.
5- الجهاد في سبيل الله: يستلزم الاستجابة الفورية والامتثال لأوامر القائد دون تردد، كما فعل الصحابة حين خرجوا مسرعين إلى بني قريظة.
6- قوة حفظ الصحابة للتاريخ: دقة وصف أنس رضي الله عنه للمشهد تدل على قوة حفظه وحرصه على نقل كل ما يتعلق برسول الله ﷺ للأمة.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* هذا الحديث دليل على وجود الملائكة وكونهم خلقًا حقيقيًا، قد يرى أثرهم البشر حتى إذا لم يروهم.
* القصة كاملة وردت في صحيح البخاري وصحيح مسلم، مما يجعلها من أعلى درجات الصحة.
* خرج النبي ﷺ إلى بني قريظة سنة 5 هـ مباشرة بعد انصراف الأحزاب.
* كان حكم بني قريظة بعد حصارهم أن نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، وكان حكمًا طابقه حكم الله تعالى في السماء.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن ينصر دينه ويعز أولياءه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.