اغزوا جميعًا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا و أن يزيدنا علما وفقها في الدين، وأن يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا ويجعلنا هداة مهتدين.
هذا الحديث العظيم الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يحتوي على موعظة بليغة وتوجيهات نبوية كريمة في آداب الغزو والجهاد في سبيل الله. سأشرحه لك جزءاً جزءاً مستعيناً بالله، معتمداً على كبار شراح الحديث مثل النووي في "شرح مسلم" وابن حجر في "فتح الباري"، وغيرهم من أئمة العلم.

---

أولاً. شرح المفردات:

● اعتم بعمامة كرابيس: "اعتم" أي لف العمامة على رأسه. و"الكرابيس" -بكسر الكاف- هي ثياب من كتان رقيق أو خشن، وقيل هي من القطن. فعمامته كانت سوداء من هذا القماش.
● نقضها: أي حلّها وفكّها.
● وأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوها: أي جعل لها ذؤابة (طرفاً متدلياً) من الخلف بمقدار أربع أصابع تقريباً، وهذا من تمام الهيئة وحسنها.
● اللواء: العلم الذي يحمله قائد الجيش، وهو أكبر من الراية.
● لا تغلوا: "الغُلُوّ" هنا يعني الخيانة في الغنيمة بأخذ شيء منها خفية قبل القسمة.
● لا تغدروا: "الغدر" هو نقض العهد وخداع العدو بعد إعطائه الأمان أو عقد الصلح معه.
● لا تمثلوا: "المثلة" هي التمثيل بالقتلى بتشويه أجسادهم أو بقر بطونهم أو غير ذلك.
● ولا تقتلوا وليدًا: "الوليد" هو الصغير من الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يقع الحديث في مناسبة مهمة، وهي تجهيز سرية عسكرية وإمارة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عليها. وفيه عدة مشاهد:
1- المشهد الأول: التوجيه النبوي في الهيئة والمظهر (آداب اللباس):
لما أراد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه -وهو من كبار الصحابة وأحد العشرة المبشرين بالجنة- أن يخرج في السرية، اعتم بعمامة سوداء من قماش الكرابيس. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، دعاه ونقض عمامته ثم عممه بنفسه صلى الله عليه وسلم وهيأها على هيئة جميلة، وأرسل منها ذؤابة من الخلف، وقال: «هكذا يا ابن عوف فاعتم، فإنه أعرف وأحسن».
● الشرح والفوائد:
هنا يتجلى اهتمام الإسلام بالمظهر الحسن والهيئة اللائقة، خاصة في المواقف المهمة كتمثيل الدعوة والجهاد. ليس المقصود الترف أو الزينة المحضة، بل إظهار هيئة المسلم وقوته واعتداده بدينه، مما يروع العدو ويرفع من هيبة الجندي المسلم. وتعميم النبي صلى الله عليه وسلم لابن عوف بنفسه درس عملي في التواضع واهتمام القائد بجنوده حتى في أدق细节 حياتهم.
2- المشهد الثاني: التوجيه النبوي في السلوك والأخلاق (آداب القتال):
بعد أن رفع بلال رضي الله عنه اللواء، خطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة الموجزة التي جمعت أصول وأخلاق الحرب في الإسلام. بدأ بحمد الله، ثم أوصى الجنود بقوله:
«اغزوا جميعًا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله»:
● الشرح: يحدد الهدف والغاية من القتال، وهو إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وليس حباً في الدماء أو طمعاً في دنيا. وقوله "جميعًا" يحث على الوحدة وعدم التفرق.
ثم جاءت الوصايا الأربع المحرمات الكبرى في الحرب:
● «لا تغلوا»: النهي عن الغلول، وهو أخذ شيء من الغنيمة خلسة قبل القسمة. وهو من كبائر الذنوب لأنه خيانة للأمة جميعاً.
● «لا تغدروا»: النهي عن الغدر، وهو من صفات المنافقين. والإسلام يحرم الغدر حتى مع الأعداء، فالمسلمون يقاتلون بشرف.
● «لا تمثلوا»: النهي عن المثلة والتشويه، مهما بلغت عداوة العدو. فالقتل له أسبابه الشرعية، ولكن التشويه لا مكان له في أخلاق المسلم.
● «ولا تقتلوا وليدًا»: النهي عن قتل الأطفال والنساء والعجزة الذين لا مشاركة لهم في القتال. وهذا من رحمة الإسلام وعدله.
ثم ختم صلى الله عليه وسلم هذه الوصايا بقوله: «فهذا عهد الله وسنة نبيكم فيكم»:
● الشرح: ليعلم الجميع أن هذه ليست مجرد توجيهات عسكرية مؤقتة، بل هي مبادئ ربانية ثابتة، وعهد من الله، وسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم التي يجب التمسك بها.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- اهتمام الإسلام بالمظهر الحسن والهيئة اللائقة: فالهيئة الحسنة تدل على كمال الدين وقوة الشخصية وتعطي انطباعاً حسناً عن المسلمين.
2- تواضع القائد واهتمامه بجنوده: تقديم النبي صلى الله عليه وسلم النصح العملي لعبد الرحمن بن عوف نموذج رفيع في القيادة الحكيمة.
3- الأخلاق الحربية في الإسلام: الإسلام يشرع القتال للدفاع عن الدين والحق، ولكنه يضبطه بأعلى معايير الأخلاق، فلا غدر، ولا خيانة، ولا وحشية، ولا اعتداء على غير المقاتلين. وهذا سبق تشريعي عظيم.
4. **القتال في الإسلام له ضوابط وغا