من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
أهلاً بك أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم رواه الإمام البخاري في صحيحه، وفيه دروس وعبر جليلة. سأشرحه لك جزءاً جزءاً بحول الله وقوته.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● الربيع: هي ابنة النضر، وأخت أنس بن النضر، وخالة أنس بن مالك رضي الله عنهم.
● ثنية جارية: الثنية هي السن الأمامية المقدمة من الأسنان، والجارية هي الصغيرة التي لم تبلغ بعد.
● الأرش: هو الدية أو التعويض المالي عن الجناية.
● العفو: هو المسامحة والتجاوز عن الحق دون مقابل.
● القصاص: هو المساواة في العقوبة، بأن تكسر ثنية الجارية كما كسرت ثنية الجارية الأخرى.
● أقسم على الله لأبره: أي لو حلف على الله بحق أو أمر معين، لاستجاب الله له وتحقق قسمه لصدقه وإخلاصه.

---

ثانياً. شرح الحديث:

تقص علينا هذه القصة أن السيدة الربيع بنت النضر -وهي من نساء الصحابة- كسرت سنَّ جارية صغيرة (ربما في شجار أو حادث). فذهب أهل الجارية إلى أهل الربيع يطالبون بالحق، فعرضوا عليهم خيارين:
1- الأرش: أي دفع دية أو تعويض مالي عن السن المكسور.
2- العفو: أن يعفووا ويتنازلوا عن حقهم مجاناً.
لكن أهل الجارية رفضوا العفو ولم يرضوا بالأرش (ربما لشدة غضبهم أو لطلبهم تحقيق العدالة بشكل آخر). فلما اشتد الخلاف، ذهبوا جميعاً إلى رسول الله ﷺ ليحكم بينهم.
فأمر النبي ﷺ بالقصاص، تطبيقاً للعدل الذي أمر به الله تعالى في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45].
وهنا وقف أنس بن النضر (أخو الربيع) متألماً ومتعجباً، وقال للنبي ﷺ: "أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟!"، أي كيف تكسر سن أختي وهي حرة شريفة؟ ثم حلف بالله الذي بعث النبي بالحق أن ذلك لن يحدث.
فأجابه النبي ﷺ بتذكير رقيق لكنه حاسم: «يا أنس، كتاب الله القصاص». أي أن حكم الله نافذ لا محالة، وهو القصاص والعدل، ولا فرق بين شريف ووضيع في تطبيق حدود الله.
فلما سمع القوم (أهل الجارية) هذا الموقف العظيم من النبي ﷺ في تطبيق العدل، وسمعوا تأثر أنس بن النضر وأخيه، انقلبت قلوبهم رحمةً وإيماناً. فرضوا وتنازلوا عن حقهم في القصاص وعفوا طواعيةً.
وفي هذه اللحظة، أظهر النبي ﷺ إعجابه بشخصية أنس بن النضر وإيمانه الراسخ، الذي جعل الخصوم يرتاحون له ويعفون، فقال: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره». وهذا ثناء عظيم من النبي ﷺ على أنس بن النضر، حيث أخبر أن من عباده الصالحين من يكون صادقاً مع الله تعالى، قوي الإيمان واليقين، حتى لو حلف على أمر لاستجاب الله له بسبب صدق إيمانه وتقواه.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- عدل الإسلام ومساواته بين الناس: يظهر الحديث بوضوح أن الشريعة الإسلامية تسوي بين الناس في الحقوق والحدود، فلا محاباة لأحد بسبب نسبه أو مكانته. فالجميع أمام القانون سواء.
2- الحكمة في الدعوة والقيادة: موقف النبي ﷺ كان حازماً في تطبيق شرع الله، لكن هذا الحزم هو الذي قاد إلى نهاية سعيدة، حيث عفا أصحاب الحق. فالحكمة أن نطبق الشرع بثقة، فهو الطريق الأقوى لإقناع القلوب.
3- قوة تأثير الإيمان الصادق: إيمان أنس بن النضر الراسخ وموقفه المؤثر هو الذي softened قلوب الطرف الآخر وجعلهم يعفون. فالإخلاص والصدق مع الله له بركة عظيمة على صاحبه وعلى من حوله.
4- فضل العفو والتسامح: يشير الموقف إلى فضل العفو عند المقدرة، وهو خلق كريم يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات.
5- الثناء على الصالحين: النبي ﷺ لم يبخل في الثناء على من يستحق، وهذا يشجع على الاقتداء بأهل الصلاح والإيمان.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- أنس بن النضر هذا هو عم أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ، وقد استشهد في غزوة أحد بعد أن قاتل قتالاً شديداً.
- الحديث يدل على مكانة العدل في الإسلام، وأنه لا يجوز التهاون في تطبيقه حتى مع المقربين.
- قول النبي ﷺ: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» هو بشارة عظيمة للمؤمنين الصادقين، وتحذير من الاستهانة باليمين الكاذبة.
أسأل الله أن يجعلنا من عباده الصالحين الذين إذا أقسموا على الله أبرهم، وأن يرزقنا العدل في أحكامنا والعفو عند مقدرتنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.