لا يُظهر عليهم عدوًا من غيرهم ولا يُهلكهم بالسنين

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم رواه الإمام مسلم في صحيحه، وفيه دروس وعبر جليلة. وإليك الشرح المفصل له:
### أولاً. ترجمة الراوي وسياق الحديث
الراوي هو عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك الأنصاري، وهو من صغار الصحابة، يروي عن كبارهم مثل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
والحديث يروي لنا قصة زيارة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لقرية من قرى الأنصار (بني معاوية)، وسؤاله لهم عن مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الدعاء الذي دعا به في ذلك المكان.

---

ثانياً. شرح المفردات:

● بني معاوية: قرية من قرى الأنصار بالقرب من المدينة المنورة.
● السنين: السنين هنا جمع سَنة، وهي القحط والشدة وجدب الأرض وقلة المطر.
● بأسهم بينهم: البأس هنا يعني القتال والحرب والعداوة. والمعنى: أن لا يجعل العداوة والقتال داخلياً بينهم.
● الهرج: الهرج في اللغة: الفتنة والقتل واختلاط الأمور. وفي الحديث: يشير إلى الفتن والحروب الأهلية والقتل بين المسلمين.

---

ثالثاً. شرح الحديث:

1- سؤال ابن عمر واستدعاء الذكرى: جاء عبد الله بن عمر إلى قرية الأنصار ليسألهم عن مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لعظم شأن هذا المكان، ولتذكيرهم ببركته ودعاء النبي فيه. وهذا يدل على حرص الصحابة على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم وتذكير الناس بها.
2- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثي: في هذا المكان المبارك، دعا النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث دعوات عظيمة تتعلق بمصير الأمة:
● الدعوة الأولى: "ألا يظهر عليهم عدوًا من غيرهم" أي أن يحفظهم الله من أن يستولي عليهم عدو خارجي (كفار أو غيرهم). وقد أعطي هذه الدعوة، فالأمة محفوظة بحفظ الله من أن يستولي عليها عدوها بالكلية ويقضي على دينها وهويتها، فهي باقية إلى قيام الساعة.
● الدعوة الثانية: "ولا يهلكهم بالسنين" أي أن لا يهلكهم الله بالقحط والمجاعات الشاملة. وقد أعطي هذه الدعوة أيضاً، فلم تهلك الأمة كلها بمجاعة عامة، وإن وقعت مجاعات في أماكن دون أخرى.
● الدعوة الثالثة: "ولا يجعل بأسهم بينهم" أي أن لا يسلط عليهم العداوة والحروب الداخلية والفتن التي يقتل بعضهم بعضاً. وقد منعت هذه الدعوة، أي لم يستجب الله لها على إطلاقها، لحكمة يعلمها سبحانه.
3- تعليق ابن عمر الجليلي: قال ابن عمر: "فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة". وهذا تصريح بأن الفتن والحروب الأهلية والقتل بين المسلمين سيكون موجوداً ويستمر إلى آخر الزمان. وهو إخبار نبوي عن واقع مرير ستواجهه الأمة.

---

رابعاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- فضل الدعاء في الأماكن المباركة: ينبغي للمسلم أن يحرص على الدعاء في الأماكن التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو التي لها فضل، فإن الدعاء فيها مجاب.
2- حكمة الله في إجابة الدعاء أو منعه: الله تعالى يجيب ما يشاء ويمنع ما يشاء لحكمة بالغة. فمنع الدعوة الثالثة (عدم جعل البأس بينهم) لحكمة عظيمة، منها اختبار المؤمنين، وتمييز الصادق من المنافق، وتكفير السيئات، ورفع الدرجات.
3- التحذير من الفتن والهرج: الحديث يحذر المسلمين من الوقوع في الفتن والحروب الداخلية، ويبين أنها من قدر الله الذي سيقع، فيجب الحذر منها والاعتبار بها.
4- التسليم بقضاء الله وقدره: يجب على المسلم أن يؤمن بأن كل ما يقع في الأمة من خير أو شر هو بقضاء الله وقدره، وأن له حكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها.
5- الاهتمام بالآثار النبوية: حرص الصحابة على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم وتعليم الناس لها، مما يدل على أهمية ارتباط القلوب بسيرته وشخصيته صلى الله عليه وسلم.

---

خامساً:

معلومات إضافية:
- هذا الحديث من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر عن أمور غيبية وقعت كما قال، واستمر الهرج والفتن في الأمة عبر العصور.
- الهرج المذكور في الحديث يشمل كل أنواع الفتن والقتل بين المسلمين، وهو من أشراط الساعة الصغرى التي وقعت ولا تزال تقع.
أسأل الله أن يحفظ الأمة من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجمع كلمتها على الحق والهدى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.