عن كل مفصل صدقة والنخاعة في المسجد تدفنها

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا جميعاً لفهم سنة نبيه والعمل بها.
هذا الحديث العظيم رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وغيرهما، عن الصحابي الجليل أبي بريدة رضي الله عنه، وهو من الأحاديث التي تبين سعة رحمة الإسلام ويسره، وتظهر كيف جعل الله تعالى أبواب الخير متاحة لكل أحد حسب طاقته واستطاعته.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● مِفْصِل: (بكسر الميم) هو العظم الذي يتصل بعظم آخر، أي المفاصل في جسم الإنسان، كالركبة والكوع والكاحل وغيرها. والعدد المذكور (360) هو للتقريب والكثرة، وليس للمقابلة الحسابية الدقيقة، لبيان كثرتها وتنوعها.
● تَصَدَّقَ: أن يبذل الإنسان شيئاً من ماله أو وقته أو عمله طلباً للأجر والثواب من الله تعالى.
● النُّخَاعَة: البلغم أو النخامة التي تخرج من الفم أو الأنف.
● تَدْفِنُهَا: أي تواريه وتغطيه في التراب أو تطمسه حتى لا يراه أحد.
● تُنَحِّيهِ: تزيله وتُبعده عن طريق الناس.
● رَكْعَتَا الضُّحَى: صلاة الضحى، وهي صلاة نافلة تؤدى بعد شروق الشمس وارتفاعها قيد رمح، وقبل الظهر.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن في جسد الإنسان عدداً كبيراً من المفاصل (360 مفصلًا)، وأن على كل مسلم أن يشكر الله تعالى على هذه النعمة العظيمة - نعمة الصحة والعافية في جسده - بأن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة يومياً.
فلما سمع الصحابة رضي الله عنهم هذا العدد الكبير، استعظموا الأمر، وتساءلوا: من يطيق أن يتصدق كل يوم بعدد هذه المفاصل (360 صدقة)؟! فبيَّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن أبواب الصدقة ليست مقصورة على المال فحسب، بل هي واسعة جداً، وذكر لهم أمثلة يسيرة يستطيعها كل إنسان، حتى الفقير الذي لا يملك مالاً:
1- "النُّخَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ تَدْفِنُهَا": أي أن تدفن النخامة (البصاق) في تراب المسجد أو تطمسها لئلا تؤذي المصلين وتقذر مكان العبادة. فهذا العمل البسيط يعتبر صدقة يُؤجر عليها المسلم.
2- "وَالشَّيْءُ تُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ": أي إماطة الأذى عن طريق المسلمين، كإزالة حجر، أو شوك، أو قاذورة، أو أي شيء يؤذي الناس. وهذا أيضاً صدقة عظيمة.
3- "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُكَ": فإن لم تجد فرصة لأداء هذه الصدقات الحسية، فأداء ركعتي صلاة الضحى كافٍ لأن يكون قيامك بهما شكراً لله على نعمة المفاصل كلها.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- سعة مفهوم الصدقة في الإسلام: فالصدقة ليست فقط بذل المال، بل كل عمل صالح يقصد به وجه الله تعالى ونفع الناس فهو صدقة، كما في الحديث: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ». فإماطة الأذى، ودفن النخامة، والكلمة الطيبة، ومساعدة الآخرين، كلها صدقات.
2- التيسير ورفع الحرج: هذا الحديث من أعظم الأدلة على يسر الإسلام وسماحته، ورفعه للحرج عن الأمة. فلم يوجب الله على عباده إلا ما يستطيعون، وجعل لهم بدائل متعددة لأداء العبادات والشعائر.
3- الحث على شكر نعم الله: جسد الإنسان مليء بالنعم التي لا تعد ولا تحصى، ومن أعظمها نعمة الصحة والعافية في المفاصل والأعضاء. وشكر هذه النعمة يكون بالاستخدام في طاعة الله وعبادته.
4- فضل صلاة الضحى: الحديث يبين فضل صلاة الضحى وأنها تجزئ عن عدد كبير من الصدقات، مما يحث المسلم على المحافظة على هذه الصلاة النافلة العظيمة.
5- النظافة والاهتمام بمشاعر المسلمين: الأمر بدفن النخامة وإماطة الأذى يدل على حرص الإسلام على النظافة، وعلى مراعاة مشاعر الآخرين وعدم إيذائهم بأي شكل من الأشكال.
6- السعي في قضاء حوائج الناس: إماطة الأذى عن الطريق هو نوع من السعي في خدمة الناس وقضاء حوائجهم، وهو من الأعمال المحبوبة إلى الله.

---

رابعاً. معلومات إضافية مفيدة:

- صلاة الضحى: أقلها ركعتان، وأفضلها ثماني ركعات، ويصح أن تصلى أربعاً أو ستاً. وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم من حافظ عليها بأن الله يكفيه آثاره اليوم كله.
- إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، كما في الحديث: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق».
- ينبغي للمسلم أن يستحضر النية في كل عمل صغير يفعله، كدفع النخامة أو إزالة الأذى، حتى يحول عاداته إلى عبادات يؤجر عليها.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على شكر نعمه، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
والله تعالى أعلم.