أصحاب رسول الله عمال أنفسهم وكان يكون لهم أرواح

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث الذي ذكر رواه الإمام البخاري في صحيحه، وسأشرحه لك شرحاً وافياً على النحو التالي:
### أولاً. نص الحديث ومصدره
الحديث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان أصحاب رسول الله ﷺ عُمَّال أنفسهم، وكان يكون لهم أرواح، فقيل لهم: «لو اغتسلتم»."
المصدر: أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في "كتاب الغسل"، باب "غسل العامل والعرق".

### ثانياً. شرح المفردات
● عُمَّال أنفسهم: أي يعملون بأيديهم في الأعمال الشاقة، كالزراعة والبناء والتجارة، وكانوا يكدحون ليكسبوا قوت يومهم.
● أرواح: جمع "رِيح"، أي رائحة العرق الكريهة التي تنتج من شدة العمل والتعب.
● لو اغتسلتم: أي قيل لهم: هلّا اغتسلتم لتزيلوا هذه الرائحة.

### ثالثاً. شرح الحديث
تصف لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حال صحابة رسول الله ﷺ، فتقول:
كان أصحاب النبي ﷺ يعملون بأنفسهم في المهن والحرف، فكانوا يَعرقون من شدة العمل وكدّ اليد، فتظهر عليهم رائحة العرق. وكان الناس - أو بعضهم - ينصحهم ويقول لهم: "لو اغتسلتم" للتخلص من هذه الرائحة.
المعنى العميق:
ليس المقصود من الحديث ذمّ الصحابة أو انتقاصهم، بل هو بيان لصورتين عظيمتين:
1- صورة الزهد والكفاف: لم يكن الصحابة رضي الله عنهم من أهل الترف والدعة، بل كانوا يعملون بجد واجتهاد ليكسبوا رزقهم الحلال، متبعين في ذلك سنة نبيهم ﷺ الذي قال: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» (رواه البخاري).
2- صورة الأولوية والهمة العالية: كان همّ الصحابة الأكبر هو طاعة الله ورسوله ونصرة الدين، فكانت مشاغل الدنيا وتوافه الأمور - مثل الاهتمام المبالغ فيه بالمظهر والرائحة - تأتي في مرتبة ثانية عندهم. لم يكن تركهم للاغتسال تقصيراً في النظافة، ولكن لأن انشغالهم بالجهاد والعلم والعمل الصالح كان يستغرق وقتهم وجهدهم.

### رابعاً. الدروس المستفادة والعبر
1- الشرف في العمل: الحديث يرفع من قيمة العمل اليدوي ويبين أنّه لا عيب على المسلم أن يعمل في أي مهنة شريفة يكسب منها قوته، وأن هذا هو حال خير القرون.
2- الزهد في الدنيا وعدم الترف: يعلمنا الحديث التواضع وعدم التكلف في أمور الدنيا، والاكتفاء بما هو ضروري وعدم الانشغال بالزينة والروائح الطيبة إلى حدّ الإسراف والتفاخر.
3- فقه الأولويات: من أعظم الدروس أن يكون للمسلم فقه في ترتيب أولوياته، فيقدم ما هو أهم على ما هو مهم، فيقدم طاعة الله ونصرة دينه على الاهتمام الزائد بزينة الدنيا.
4- النظافة من الإيمان: الحديث لا يعني إهمال النظافة، بل إن الإسلام حث على الطهارة والاغتسال، خاصة للجمعة والصلوات. ولكن المعنى هو بيان حالهم بسبب انشغالهم بالأمور الجليلة، وليس ذماً لهم. فلو طُلب منهم الاغتسال لامتثلوا.
5- صدق الصحابة في التزامهم: فهم لم يكونوا منفصلين عن واقع الحياة، بل كانوا قدوة عملية في كل شيء، في عبادتهم، وأخلاقهم، وحتى في كدحهم وعملهم.

---

خامساً:

معلومات إضافية مفيدة
- هذا الحديث جزء من مجموعة أحاديث تبين سماحة الإسلام ويسره، وعدم تكليفه الناس بما يشق عليهم.
- يستدل الفقهاء بهذا الحديث على أنّه لا يجب الغسل لمجرد شدة العرق أو الرائحة، وإنما يستحب للطهارة والنظافة، لأن الصحابة لم يُؤمروا بالغسل بل只是 قيل لهم "لو اغتسلتم" وهي صيغة اقتراح واستحباب وليس أمراً إلزامياً.
- يوضح الحديث الفرق بين الهدي النبوي في التواضع والزهد، وبين حال الكثيرين اليوم الذين يجعلون الاهتمام بالمظهر والرائحة همّاً رئيسياً قد يصل إلى درجة الغرور والاختيال.
أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا الاقتداء برسوله ﷺ وصحابته الكرام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.