أبوا أن يبيعوا بريرة إلا أن يشترطوا الولاء

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث العظيم رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو من الأحاديث التي تُبيّن حكماً عظيماً من أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالعتق والولاء. وإليك الشرح المفصل:

---

أولاً. شرح المفردات:

● ساومت بريرة: أي أن السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - تفاوضت في ثمن شراء الجارية (بريرة) لتعتقها.
● أبوا أن يبيعوها إلا أن يشترطوا الولاء: أي رفض أصحاب بريرة (أسيادها) بيعها للسيدة عائشة إلا بشرط أن يبقى حق الولاء (وهو حق التوالي والنصرة والوراثة) لهم، لا لمن سيعتقها.
● الولاء: هو حق خاص وعلاقة روحية وقانونية تنشأ بين المعتَق (من أُعتق من الرق) ومعتقه (الذي أعتقه). هذا الحق يجعل المعتَق كالولد لمعتقه في النصرة والموالاة، وله تبعات في الميراث.
● إنما الولاء لمن أعتق: أي أن حق الولاء يثبت ويصبح مملوكاً للشخص الذي دفع الثمن وأعتق العبد أو الأمة، ولا يجوز شرطه لأحد غيره.

---

ثانياً. شرح الحديث:

القصة كما وردت:
1. أرادت السيدة عائشة - رضي الله عنها - أن تشتري الجارية بريرة لتُعتقها وتُحررها من الرق.
2. تفاوضت مع مالكيها (أهلها) على ثمنها، ووافقوا على البيع بشرط واحد فقط، وهو أن يبقى حق الولاء لهم، وليس لمن سيعتقها (أي للسيدة عائشة).
3. خرج النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، وعندما عاد أخبرته السيدة عائشة بالشرط الذي وضعه البائعون.
4. فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بحكم الله تعالى بأن الولاء حق غير قابل للتفويت أو الشرط، بل هو ملحق تلقائياً بمن دفع الثن وأعتق، فقال: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ».
5. أي أن الولاء يصبح حقاً للسيدة عائشة لأنها هي التي ستدفع الثمن وتُعتق بريرة، ولا يحق لأصحابها السابقين الاحتفاظ بهذا الحق أو اشتراطه.
السؤال الإضافي (قلت لنافع: حرا كان زوجها أو عبدا؟):
هذا سؤال من الراوي (وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) لتلميذه نافع، يسأله عن حالة زوج بريرة في تلك الفترة: هل كان حراً أم عبداً؟ فأجابه نافع: "ما يُدريني" أي "ما أدري" أو "لا أعلم". وهذا يدل على دقة الرواة في نقل ما يعلمون فقط وعدم الخوض في ما لا علم لهم به.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والفقه في الحديث:

1- حكمة التشريع الإسلامي: بيّن الحديث حكماً عظيماً يقطع الطريق على محاولات استغلال نظام الرق، حيث منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يستفيد السيد السابق من ولاء من أعتقه غيره، ensuring أن العملية تحرير خالص لا شبهة فيها.
2- الولاء حق غير قابل للتصرف: الولاء يتبع العتق، وهو حق إلهي ثابت لمن أعتق، لا يجوز بيعه ولا هبته ولا اشتراطه لأحد. وهذا من محاسن الإسلام، حيث جعل العلاقة قائمة على الإحسان والبر لا على المادة والاستغلال.
3- رفض الشروط الجائرة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشروط التي تخالف أحكام الشريعة، فقال في حديث آخر: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» (متفق عليه)، وأي شرط يخالف كتاب الله فهو باطل.
4- حرص الصحابة على الفهم: حرص ابن عمر - رضي الله عنه - على معرفة جميع ظروف القصة (حال زوجها) لفهم أعمق للحكم، مما يدل على حرصهم على التثبت والفقه في الدين.
5- مكانة المرأة ودورها: الحديث يظهر دور السيدة عائشة - رضي الله عنها - الفعّال في المجتمع، حيث كانت تتاجر وتُعتق الرقاب، وتستفتي النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين، مما يدل على مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية ضمن ضوابط الشرع.

---

رابعاً. معلومات إضافية مفيدة:

● بريرة هي صحابية جليلة، كانت أمة ثم أعتقتها السيدة عائشة، واشتهرت بقصتها في الحديث، وكان زوجها يُدعى مغيث، وكان عبداً ثم أُعتق لاحقاً.
- حكم الولاء من الأحكام التي أكدتها العديد من الأحاديث، وهو من خصائص الشريعة الإسلامية التي ربطت بين المحرر والمُعتَق برباط دائم.
- هذا الحديث أصل من أصول الفقه في باب العتق والولاء، واستدل به العلماء على بطلان أي شرط مخالف لأحكام الشريعة في المعاملات.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يفقهنا في ديننا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.