اركب دابتك وسر أمامها فإنك إذا كنت أمامها لم تكن معها

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث الشريف رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وصححه الألباني. وهو حديث عظيم فيه درس في التوحيد والولاء والبراء، وفيما يلي شرحه:

---

أولاً. شرح المفردات:

● رُوي عن كعب بن مالك: الراوي للقصة هو الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه.
● ثابت بن قيس بن شماس: هو صحابي جليل، كان خطيب النبي ﷺ، ومن أفاضل الأنصار.
● توفيت: ماتت.
● نصرانية: على دين النصارى.
● يحب أن يحضرها: يريد أن يشهد جنازتها ويتبعها.
● دابتك: مركوبك من الحيوان، مثل الحمار أو البعير.
● سِرْ أمامها: امشِ أو اركب أمام الجنازة.
● لم تكن معها: أي لم تُحْسَب من جملة المشيعين لها والمتبعين لجنازتها بالطريقة التي تُفهم منها الموافقة على دينها.

---

ثانياً. شرح الحديث:

جاء الصحابي الجليل ثابت بن قيس رضي الله عنه إلى النبي ﷺ يستأذنه في حضور جنازة أمه التي ماتت على دين النصرانية، محتجاً بحق الأم وبرها. فلم يمنعه النبي ﷺ من البر بأمه مطلقاً، ولكنه وجهه توجيهاً حكيماً يحقق له عدة مقاصد:
1- تحقيق البر بالأم: بإذنه ﷺ له في الخروج، فقد أعطاه فرصة للقيام بواجب البر نحو أمه، مما يدل على أن البر بالوالدين غير المسلمين مشروع، بل هو من مكارم الأخلاق.
2- الحفاظ على عقيدة الولاء والبراء: وهي من أصول الإيمان، والتي تقتضي عدم موالاة الكفار ومحبتهم على الدين. ومشيع الجنازة يظهر بمظهر الموافق والمتضامن مع الميت، خاصة إذا كان من أقاربه. فجاء التوجيه النبوي ليحل هذه الإشكالية.
3- الحل العملي: أمره النبي ﷺ أن يركب دابته ويسير أمام الجنازة، لا خلفها أو معها. لأن السير أمام الجنازة لا يُعد في عرف الناس تشييعاً لها أو مواكبة لها، بل هو مجرد شخص يسير في الطريق. بينما السير خلف الجنازة هو شعار المشيعين والمؤيدين.
فجمع هذا التوجيه بين حق الأم وحق الله تعالى في توحيده وعدم مظاهرة الكفر وأهله.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- بر الوالدين غير المسلمين: الحديث دليل واضح على وجوب بر الوالدين ولو كانا كافرين، ما لم يأمرانا بمعصية الله. والبر يكون بالإحسان إليهما في الحياة وبعد الممات، لكن دون مجاملة في الدين.
2- الحكمة في الدعوة والتعامل: النبي ﷺ لم يقل لثابت: "لا تبر أمك"، بل أرشده إلى طريقة تبر فيها بأمك دون أن تخدش عقيدتك. وهذا من فقهه ﷺ وحكمته في التعليم.
3- الحرص على سلامة العقيدة: المسلم مطالب بحماية عقيدته من كل ما يشوبها، حتى وإن كانت المشاعر الإنسانية قوية. فمحبة الله ورسوله فوق محبة الوالدين والولد والناس أجمعين.
4- التفريق بين البر والمودة القلبية: يمكن للمسلم أن يُحسن إلى والديه غير المسلمين ويعاملهم معاملة حسنة، ولكن هذا غير المودة القلبية والموالاة التي تكون لله وفي الله. قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].
5- مراعاة العرف والعادة: فهم النبي ﷺ أن السير خلف الجنازة عرفٌ يُفهم منه الموافقة والتأييد، فعدل به إلى ما لا يفهم منه ذلك، وهو السير أمامها. وهذا درس في أهمية اعتبار العرف ما لم يخالف الشرع.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث خاص بجنازة الكافر، أما جنازة المسلم فمشيعها يؤجر، والسير خلفها من حق المسلم على أخيه.
- بعض العلماء استدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز اتباع جنازة الكافر مطلقاً، وأن ما فعله ثابت كان خاصاً به بإذن النبي ﷺ. والراجح -والله أعلم- هو الجواز بهذه الكيفية التي أرشد إليها النبي ﷺ تحقيقاً للبر، مع الكراهة إن لم يكن هناك مصلحة راجحة.
- فيه بيان للرحمة النبوية والمرونة الشرعية في حل المعضلات التي تجمع بين حق الله وحق العبد.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.