بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذوه

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث الذي ذكر، وهو عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وعن عثمان بن أبي سليمان، يروي قصة مهمة من قصص غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تحمل دروساً عظيمة في التعامل مع غير المسلمين، وفي أخلاق الحرب والسلم في الإسلام.

---

أولاً. شرح المفردات:

● بعث خالد بن الوليد: أي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم على رأس سرية عسكرية.
● إلى أُكَيْدِر دُومَة: (أكيدر) هو اسم رجل، وهو أكيدر بن عبد الملك الكندي، وكان ملكاً ونصرانياً. و(دومة) هي اسم مكان، وهي "دومة الجندل"، وهي منطقة معروفة بين المدينة والشام.
● فأخذوه: أي قبضوا عليه وأسروه بعد حصار أو مواجهة.
● فحَقَنَ له دمه: أي عفا عنه ولم يقتله، مع أن القتل كان ممكناً لأنه كان محارباً.
● صالحه على الجزية: أي عقد معه صلحاً وعهداً على أن يدفع هو ومن معه من أهل دومة الجزية.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يحدثنا هذا الحديث عن سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم بقيادة خالد بن الوليد رضي الله إليه إلى منطقة دومة الجندل، حيث كان هناك ملك نصراني يدعى أكيدر.
تمكن خالد ومن معه من أسره (وذلك بعد حصار قصير حسب روايات أخرى)، ثم أحضروه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
هنا تظهر رحمة الإسلام وعدله: فبدلاً أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وهو الأسير، حقن دمه، أي منع سفكه وأبقى على حياته.
ثم صالحه على الجزية، أي قبل منه أن يدفع الجزية (وهي مبلغ من المال يدفعه غير المسلمين المقيمين في دولة الإسلام مقابل حمايتهم والدفاع عنهم وتمتعهم بحرياتهم الدينية والمدنية) مقابل أن يعود إلى بلده ويحكمها تحت راية الدولة الإسلامية.
وهذا الصلح كان بمثابة عقد ذمة، يصبح بموجبه هو وأهل بلده من "أهل الذمة" الذين لهم حقوق وعليهم واجبات.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة منه:

1- رحمة الإسلام في الحرب: فالهدف من الجهاد في الإسلام ليس القتل أو الإبادة، بل إزالة الطواغيت التي تحول بين الناس وهداية الله، ونشر العدل. وإذا أمكن تحقيق هذا الهدف دون قتال، فهو الأولى.
2- مشروعية أخذ الجزية: الجزية هي بديل عن القتال، وهي علامة على الخضوع لسلطان الدولة الإسلامية وحكمها، وهي في مقابل الحماية والخدمات التي تقدمها الدولة لهم. وهي خاصة بأهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمجوس على خلاف بين العلماء.
3- الحكمة في التعامل مع الأسرى: لم يستعجل النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الأسير، بل نظر في المصلحة، فرأى أن في إبقائه وحقن دمه وصالحه مصلحة أعظم وهي دخول منطقة دومة الجندل في حوزة الدولة الإسلامية وسلمياً.
4- التدرج في الدعوة: لم يُجبره النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، بل ترك له حرية البقاء على دينه مع دفع الجزية، وهذا من تمام الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لغير المسلمين.
5- ثبات خالد بن الوليد رضي الله عنه: حيث نفذ المهمة بنجاح، وهو من القادة العسكريين البارزين الذين أسلموا متأخراً ثم كانوا من أعظم المجاهدين في سبيل الله.

---

رابعاً. معلومات إضافية مفيدة:

- وقعت هذه السرية في شهر ربيع الأول من السنة التاسعة للهجرة، قبل غزوة تبوك.
- أكيدر هذا بقى على نصرانيته، ووفى بعهده مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يخنه.
- الجزية ليست إهانة، بل هي ضريبة دفاع، وهي أشبه بضريبة الدفاع التي كان المسلمون themselves يدفعونها (الزكاة) للدولة للإنفاق على الجيش والمصالح العامة. وكانت تُفرض على القادرين من الرجال، ويعفى منها النساء والصبيان والشيوخ والمرضى والفقراء والرهبان.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.