الذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
أهلاً بك أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث الذي ذكر، رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو حديث عظيم يحكي موقفاً من المواقف التي جرت في زمن الصحابة الكرام، وفيه دروس وعبر عظيمة.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● يوسف بن ماهك: راوي الحديث، وهو ثقة من التابعين.
● مروان: هو مروان بن الحكم، كان والياً على المدينة من قبل معاوية بن أبي سديان رضي الله عنه.
● استعمله معاوية: أي عينه والياً من قبله.
● يبايع له بعد أبيه: أي يطلب من الناس مبايعة يزيد بن معاوية ولياً للعهد بعد أبيه معاوية.
● عبد الرحمن بن أبي بكر: هو الصحابي الجليل، ابن الخليفة الأول أبي بكر الصديق، وأخو السيدة عائشة رضي الله عنهم أجمعين.
● خذوه: أي اقبضوا عليه أو أمسكوه.
● من وراء الحجاب: أي من خلف حجاب، وكانت السيدة عائشة تلتزم الحجاب كما أمر الله.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا التابعي يوسف بن ماهك أن مروان بن الحكم كان والياً على الحجاز (والتي عاصمتها المدينة المنورة) من قبل الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
وفي إحدى خطبه، بدأ مروان يذكر يزيد بن معاوية ويمدحه، ويهيئ الناس لمبايعته ولياً للعهد بعد أبيه معاوية. وهذا الأمر – أي توريث الحكم – كان جديداً على المسلمين، ولم يكن معهوداً في عهد الخلفاء الراشدين من قبله، حيث كانت البيعة بالشورى.
فلما سمع الصحابي الجليل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق هذا الكلام، اعترض على مروان وقال له كلاماً (ولم يذكر الرواية نص الكلام، لكن الظاهر أنه أنكر عليه هذا الفعل)، فغضب مروان وأمر جنوده أن يقبضوا على عبد الرحمن بن أبي بكر.
فهرب عبد الرحمن واختبأ في بيت أخته أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، فلم يستطع جنود مروان الوصول إليه.
حينها، غضب مروان وقال مغالطاً في حق عبد الرحمن بن أبي بكر: "إن هذا الذي أنزل الله فيه: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي)".
وهذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف، وهي تتحدث عن الابن الكافر العاق لوالديه، الذي يقول لهما "أفٍّ" (وهي كلمة تقال للتقزز والاشمئزاز) وينكر عليهما وعدهما إياه بالبعث والحساب.
فسمعت السيدة عائشة رضي الله عنها – من وراء حجابها كما هو حال نساء المؤمنين – هذا الاتهام الباطل لأخيها، فردت رداً بليغاً وحاسماً قائلة: "ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري".
ومعنى قولها: كلا، ما نزل في عبد الرحمن شيء من القرآن ذاماً له، بل العكس، الله تعالى أنزل في حقي (أي في شأني في حادثة الإفك) آيات برأني فيها وطهّرني، وعذري (أي براءتي) معروضة في القرآن للجميع. فهي تشير إلى أن أسرتها (آل أبي بكر) هم من أهل التقوى والصلاح، الذي نزل القرآن يمدحهم ويبرئهم، وليس العكس.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- جرأة الصحابة في قول الحق: الموقف يظهر شجاعة عبد الرحمن بن أبي بكر في الإنكار على والي السلطان عندما رأى أمراً يستحق الإنكار، فهو لم يسكت خوفاً من بطش الحاكم.
2- خطورة القول على الله بغير علم: هذا الموقف تحذير عظيم من نسبة آيات القرآن إلى غير معانيها الصحيحة، أو تحميلها ما لا تحتمل لتبرير موقف شخصي أو سياسي. فمروان استخدم آية في وصف الكفار ليلصقها بصاحب جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم الجرم.
3- مكانة آل أبي بكر الصديق: رد السيدة عائشة يظهر المكانة العظيمة لأبيها وأسرتها عند الله تعالى، حيث نزل القرآن يبرئها ويشهد بصدقها، فكيف يوصف أخوها بعقوق الوالدين وهو من هذه الأسرة الصالحة؟
4- الحكمة والوعي: رد السيدة عائشة كان حكيماً وبليغاً، حيث دافعت عن أخيها دون أن تخرج عن أدبها أو تتهاوى إلى مستوى الشتيمة، بل استدلت بالقرآن نفسه على براءة أسرتها وطهارتها.
5- الالتزام بالحجاب: الموقف يسجل لنا التزام أمهات المؤمنين بالحجاب، حتى وهن في بيوتهن، حيث خاطبت مروان من وراء حجاب.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الموقف يقع في إطار الخلاف السياسي الذي حصل بعد انتهاء عصر الخلافة الراشدة، حول مسألة تولية العهد.
- عبد الرحمن بن أبي بكر كان معروفاً بالصلاح والاستقامة، وقد شارك في الفتوحات وكان من خيار الصحابة.
- قول السيدة عائشة "أنزل عذري" إشارة إلى آيات سورة النور التي نزلت تبرئتها من حادثة الإفك، مما يزيد من قوة حجتها ويدحض كلام مروان.
نسأل الله أن يرزقنا الفهم في الدين، والثبات على الحق، وأن يجنبنا القول عليه بغير علم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه