كنت غلاما في حجر رسول الله ﷺ، وكانت يدي تطيش في الصحفة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي ﷺ، الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارًا، وفيه آداب مهمة للأكل، وهي من كمال الشريعة الإسلامية التي تنظم حياة المسلم حتى في أصغر أموره.

---

الحديث بلفظه:

عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما يقول: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ». فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طُعْمَتِي بَعْدُ.
رواه البخاري (رقم 5376) ومسلم (رقم 2022).

---

شرح المفردات:

* في حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: في رعايته وكفالته. وكان عمر بن أبي سلمة ربيب النبي ﷺ، ابن أم سلمة من زوجها السابق أبي سلمة، فتبناه النبي ﷺ وأحسن تربيته.
* تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ: تتحرك وتتناول الطعام من جميع جوانب الصحفة (الإناء الذي فيه الطعام) دون نظام، فتأكل من هنا وهناك.
* سَمِّ اللَّهَ: قل "بسم الله" عند ابتداء الأكل.
* بِيَمِينِكَ: بيدك اليمنى.
* مِمَّا يَلِيكَ: من الجهة التي أمامك من الطعام، ولا تتعدى إلى ما أمام غيرك.
* طُعْمَتِي: أي عادتي وهديي في الأكل. أي التزمت بهذه الآداب طوال حياتي بعد ذلك.

---

شرح الحديث:

يحدثنا الصحابي الجليل عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه، وهو صغير السن، عن موقف تربوي عظيم مع النبي ﷺ. فقد كان يأكل مع النبي ﷺ، وكانت يده الصغيرة تتحرك في الصحفة (الطبق) تأخذ الطعام من كل مكان، من أمامه ومن أمام الآخرين، وهذا سلوك طبيعي من طفل لم يتعلم آداب الطعام بعد.
فانتهز النبي ﷺ هذه اللحظة ليعلمه ثلاثة آداب أساسية للأكل في كلمات موجزة بليغة:
1- «سَمِّ اللَّهَ»: هذا الأمر يتعلق ببداية الأكل. وهو إرشاد لذكر الله تعالى عند البدء في كل أمر ذي بال، ومنه الأكل والشرب. التسمية تبرك بالطعام وتذكر المسلم بأن النعمة من الله، وهي حاجز بينه وبين الشيطان الذي يأكل مع من لم يذكر اسم الله. وهي سبب لبركة الطعام وعدم تسلط الشيطان عليه.
2- «وَكُلْ بِيَمِينِكَ»: هذا الأمر يتعلق بكيفية الأكل. فالأيمن مخصص للأعمال الحسنة والشريفة، كالأكل والشرب والأخذ والعطاء. والأكل بالشمال من شيم الشيطان ومن يتشبه به، وهو خلاف الأدب والهيئة الحسنة. وفي هذا تأكيد على تميز المسلم في كل أحواله حتى في هيئته عند الطعام.
3- «وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ»: هذا الأمر يتعلق بآداب المشاركة في الطعام. وهو أدب اجتماعي رفيع، يمنع الإيذاء أو التقذّر، ويحفظ حقوق الآخرين المشاركين في الطعام. فالتعدي إلى ما أمام الآخرين قد ينفرهم أو يسبب التقاط الطعام المتساقط أو ينقل الجراثيم، وهو دليل على الشره وعدم الاحترام. الأكل مما يليك ينظم عملية الأكل ويحفظ جماليتها وآدابها.
«فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طُعْمَتِي بَعْدُ»: هذه الجملة تعكس الأثر العميق لهذا التوجيه النبوي الرقيق. فقد علق هذا الدرس في ذهن الغلام وقلبه، فالتزم به طوال حياته، وصار عادة له وسنة لا يحيد عنها. وهذا من بركة تعليم النبي ﷺ وحسن تربيته.

---

الدروس المستفادة والفوايد:

1- عناية الإسلام بآداب الطعام: الإسلام دين كامل، يهتم بتهذيب السلوك الإنساني في جميع مناحي الحياة، كبيرها وصغيرها، لينشئ مجتمعًا مهذبًا نظيفًا.
2- أهمية التربية بالقدوة والموقف: النبي ﷺ لم يعنف الغلام، بل ناداه بـ "يا غلام" نداءً رقيقًا، وعلمه بهدوء. أفضل التربية هي في اللحظة المناسبة، بالموعظة الحسنة.
3- الجمع بين حق الله وحق الناس: جمع الحديث بين أدب مع الله (التسمية) وأدب مع النفس (الأكل باليمين) وأدب مع المجتمع (الأكل مما يليك).
4- التأثير الطويل للتربية في الصغر: التوجيه في الصغر يرسخ في النفس ويصبح عادة وسجية للشخص طوال عمره، كما حدث مع عمر بن أبي سلمة.
5- النَهي عن الأكل بالشمال: وهذا من الأمور المجمع على كراهتها أو تحريمها، لأنها مخالفة للهدي النبوي ومن فعل الشيطان.
6- بركة الطعام: تكون باتباع هذه الآداب، ففيها امتثال لأمر النبي ﷺ، وذكر لله، وحفظ للنعمة، وتجنب لشرور الشيطان.

---

خاتمة:

هذا الحديث من أعظم الدروس التربوية، وهو نموذج للرعاية النبوية في بناء الشخصية المسلمة المتكاملة، التي تراعي أدب العبودية لله وأدب التعامل مع الخلق في كل صغيرة وك