أدخلي الشيطان بيتًا أخرجه الله منه

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث العظيم رواه الإمام مالك في "الموطأ"، والإمام مسلم في "صحيحه"، وغيرهما، وهو من الأحاديث التي تُبيِّن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع مصائب الدنيا، وخاصة مصيبة الموت.

---

أولاً. شرح المفردات:

● غريب: أي مات بعيداً عن أهله وموطنه.
● وفي أرض غُربة: أي في بلد غير بلده الأصلي.
● لأَبكيَنَّه بكاءً يُتَحَدَّثُ عنه: لأبكين عليه بكاءً شديداً ملء العين، حتى يصير حديث الناس.
● تهيَّأتُ للبكاء: استعددت وأعددت نفسي للبكاء الشديد.
● من الصعيد: المنطقة المرتفعة من الأرض، والمقصود هنا جهة من جهات المدينة أو ما حولها.
● تُسْعدني: أي تشاركني في مصيبتي وتساعدني في تعزيتي وتواسيني.
● أتُريدين أن تُدخلي الشيطان بيتًا أخرجه الله منه؟: استفهام إنكاري بمعنى النهي؛ أي لا تفعلي ذلك.

---

ثانياً. شرح الحديث:

تحدثنا السيدة أم سلمة رضي الله عنها عن موقف مؤثر بعد وفاة زوجها الأول أبي سلمة رضي الله عنه. فقد توفي في المدينة، وهي بعيدة عن مكة موطنهما الأصلي، فشعرت بالوحشة والحزن الشديد لموته غريباً.
فهمت في نفسها أن تبكي عليه بكاءً شديداً يصل إلى درجة النياحة (وهي رفع الصوت بالبكاء والتعديد لمحاسن الميت)، حتى يكون هذا البكاء حديث الناس. وفي لحظة استعدادها لهذا الحزن الجامح، أقبلت امرأة لتواسيها وتشاركها في مصابها.
فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تصل إلى أم سلمة، ونهاها عن الدخول عليها بهذه النية، قائلاً لها مرتين: «أتُريدين أن تُدخلي الشيطان بيتًا أخرجه الله منه؟».
ففهمت أم سلمة رضي الله عنها أن هذا الخطاب موجه لمعنى أعمق، فهو وإن كان موجهاً لتلك المرأة، إلا أنه إرشاد لها هي أيضاً. فكفت عن البكاء الذي كانت تنوي فعله، ولم تبكِ بالطريقة التي كانت تهيأت لها.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- الصبر على المصيبة واجب: يوضح الحديث وجوب الصبر واحتساب الأجر عند الله عند نزول المصيبة، وخاصة مصيبة فقد الأحبة. والبكاء بحد ذاته ليس محرماً، إنما المحرم هو الصراخ ورفع الصوت والنَّياحة والتعديد لمحاسن الميت، لأن ذلك ينافي الصبر.
2- النهي عن النياحة: النياحة من أعمال الجاهلية التي حرمها الإسلام، لأنها تدل على الاعتراض على قضاء الله وقدره، وتُدخل الشيطان على قلب المصاب فتُضعف إيمانه وتجعله يجزع rather than يصبر.
3- بيت المؤمن يجب أن يخلو من الشيطان: قوله صلى الله عليه وسلم «بيتًا أخرجه الله منه» إشارة إلى أن الصبر والاستسلام لقضاء الله يخرج الشيطان من قلب المؤمن وبيته، لأن الشيطان يفرح بالحزن والجزع والاعتراض. فالمصيبة تكون نعمة إذا صبر العبد، وتكون نقمة إذا جزع.
4- حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التوجيه: لم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم الخطاب مباشرة لأم سلمة وهي في ذروة حزنها، بل وجهه للمرأة الأخرى، فكان توجيهاً رقيقاً غير مباشر، فهمت منه أم سلمة المراد فامتثلت. وهذا من فقهه صلى الله عليه وسلم ورفقه بأمته.
5- التعزية سنة، ولكن بشرط ألا تكون وسيلة للمعصية: مجيء المرأة لتسعد أم سلمة هو من التعزية المشروعة، لكن نهاها النبي لأن قصدها سيكون وسيلة لدخول الشيطان (أي البكاء المحرم) إلى البيت.
6- المرأة العاقلة الفقهة: في هذا الموقف دليل على عقل وفقه أم سلمة رضي الله عنها، حيث فهمت الإشارة ولم تحتج إلى خطاب مباشر، فاستجابت فوراً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

● أبو سلمة: هو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه، من السابقين الأولين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وتوفي في السنة الرابعة للهجرة بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد.
● أم سلمة: هي هند بنت أبي أمية رضي الله عنها، إحدى أمهات المؤمنين، وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة، وكانت من أفقه نساء الصحابة.
- هذا الحديث أصل في باب الصبر على المصيبة، واستحباب عدم البكاء بالنياحة، وأن البكاء بدون صوت شديد أو نياحة جائز، فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على موت ابنه إبراهيم وقال: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
نسأل الله أن يرزقنا الصبر عند المصائب، وأن يجعلنا ممن يرضى بقضائه ويحتسب الأجر عنده.
والله أعلم.