إعقاب الغزاة بعضا بعضا

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يرزقنا و إياكم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما وفقها في الدين واجعلنا هداة مهتدين.
هذا الحديث الذي ذكر يروي قصة عظيمة تدل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على تطبيق سنة النبي ﷺ وعدم التفريط فيها، حتى وإن كانت تتعلق بتنظيم أمور الجهاد وإدارة شؤون الجيوش.

---

أولاً. شرح المفردات:

● يعقب الجيوش: أي يبدل الجيوش ويجعل مكان الجيش القديم جيشاً جديداً، فيستبدل الجنود المتعبين أو المنهكين بجنود جدد.
● قفل أهل ذلك الثغر: قفل يعني رجع وعاد، والثغر هو المكان الذي يخاف منه العدو، أي الحدود أو المعسكرات الأمامية.
● اشتد عليهم: أي تضايقوا وشق عليهم البقاء.
● وتواعدهم: أي توعدهم بالعقوبة أو أظهر لهم غضبه وشدة موقفه.
● غفلت عنا: أي نسيتنا أو أهملت أمرنا.
● إعقاب بعض الغزية بعضاً: أي إبدال بعض الغزاة ببعض، بحيث لا يطيل بقاء الجند في الثغور.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يحدثنا عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري عن مجموعة من الأنصار كانوا في جيش مرابط في أرض فارس (أي في الجبهة الفارسية خلال فتوحات العراق وإيران)، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتبع سياسة ثابتة وهي تعقيب الجيوش، أي أنه كان يستبدل الجنود المرابطين على الثغور بجنود جدد في كل عام، حتى لا يرهق الجنود القدماء ويُجهدوا من طول المرابطة والبعد عن الأهل.
وفي إحدى السنوات، شُغل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بأمور الدولة الكثيرة فلم يتمكن من إرسال البديل لهذا الجيش في الموعد المعتاد. فلما مر الوقت المحدد ولم يأتِ البديل، عاد الجنود المرابطون من الثغر إلى المدينة المنورة دون إذن، غاضبين من هذا التأخير.
فلما قدموا على عمر رضي الله عنه، اشتد عليهم (أي غضب منهم وعنفهم) لأنهم تركوا مواقعهم العسكرية دون أمر، مما يعرض الثغور الإسلامية للخطر. لكنهم هم أيضاً كانوا غاضبين، وكانوا من الصحابة الكرام، فلم يخشوا مواجهة الخليفة بالحق، فقالوا له: "يا عمر إنك غفلت عنا، وتركت فينا الذي أمر به رسول الله ﷺ من إعقاب بعض الغزية بعضا".
أي: لقد نسيتنا وأهملت تطبيق السنة النبوية التي أوصى بها رسول الله ﷺ، وهي ألا نُطيل على الجنود المرابطة في الثغور، وأن نبدلهم بغيرهم حتى لا يُجهَدوا.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- حرص الصحابة على السنة: يظهر هذا الموقف حرص الصحابة رضي الله عنهم الغير عادي على تطبيق تعاليم النبي ﷺ، حتى في أدق تفاصيل تنظيم الجيش وإدارة الدولة، وعدم السكوت عن أي تقصير فيها حتى لو كان من الخليفة نفسه.
2- مشروعية نظام "التعقيب" في الجهاد: الحديث يدل على مشروعية نظام إبدال الجنود المرابطين وإراحتهم، وهو من رحمة الإسلام وعدله، حيث يراعي حالة الجنود النفسية والبدنية وأوضاع أسرهم.
3- الشورى ومساءلة الحاكم: الموقف يمثل نموذجاً رفيعاً لمبدأ المساءلة في الإسلام، حيث يحق للأمة أن تنصح حكامها وتذكرهم بالحق وبالسنة إذا قصروا فيها، والحاكم المسلم العادل مثل عمر يقبل النقد البناء ويتراجع عن خطئه.
4- قوة شخصية الصحابة: لم يخش الصحابة مواجهة عمر بن الخطاب رضي عنه، المعروف بشدته وهايبة في الحق، لأنهم كانوا يعلمون أنهم يطالبون بحق أقره الإسلام.
5- الحكمة في إدارة الدولة: سياسة "تعقيب الجيوش" تدل على حكمة عمر رضي عنه وبُعد نظره في إدارة شؤون الحرب، ومراعاة الجانب الإنساني للجنود، مما يحفظ لهم حماسهم وقوتهم.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وهو حديث صحيح الإسناد.
- الثغور هي حدود الدولة الإسلامية مع الأعداء، والمرابطة عليها من أعظم الأعمال وأجلّها، وقد وردت نصوص في فضلها، ولكن الإسلام يراعي طاقة البشر.
- قصة عمر مع الجنود تظهر أيضاً سبب تسميته بـ "الفاروق"، فهو يغضب لله ويشتد على من يقصر في duty العسكرية، ولكن عندما يبينون له الحق، يقبله ويعترف به.
أسأل الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يردنا إلى سنة نبيه ﷺ رداً جميلاً.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.