من طاف بالبيت فقد حل

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن ينفعنا بما ندرس ونفهم من سنة نبينا الكريم.
الحديث الذي ذكر:
عن أبي حسان الأعرج، قال: قال رجل من بني الهجيم لابن عباس: ما هذه الفتيا التي قد تشغفت أو تشغبت بالناس أن من طاف بالبيت فقد حل!؟ فقال: سنة نبيكم ﷺ وإن رغمتم.

---

1. شرح المفردات:

● بني الهجيم: قبيلة من قبائل العرب.
● الفُتيا: الفتوى، أي الحكم الشرعي الذي يُخبر به العالم.
● تَشَغَّفَتْ أو تَشَغَّبَتْ: كلمتان متقاربتان في المعنى:
● تَشَغَّفَتْ: من الشغف، وهو شدة التعلق والانتشار، أي انتشرت بين الناس وتعلقت بها نفوسهم.
● تَشَغَّبَتْ: من الشغب، وهو الاختلاف والاضطراب، أي أحدثت جدلاً واختلافاً بين الناس.
● طاف بالبيت: أدى الطواف حول الكعبة.
● حلَّ: خرج من إحرامه وأصبح حلالاً له ما كان محظوراً عليه بسبب الإحرام.
● سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ: طريقته وهديه الذي شرعه للأمة.
● وإن رَغِمْتُم: الرغام هو التراب، والمقصود "وإن أنكرتم وكرهتم ذلك وغضبتم"، أي حتى لو كان ذلك يغيظكم ولا يروق لكم.

---

2. شرح الحديث:

السياق والقصة:
يحدثنا هذا الأثر عن موقف حصل مع الصحابي الجليل وعالم الأمة حبرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. حيث جاءه رجل من قبيلة بني الهجيم يعترض على فتوى انتشرت بين الناس، مفادها أن الحاج أو المعتمر إذا طاف حول الكعبة (طواف الإفاضة أو طواف العمرة) فقد تحلل من إحرامه وأصبح حلالاً له كل شيء.
كان هذا الرجل مستنكراً لهذا الحكم، معتبراً إياه غريباً أو مثيراً للجدل، فسأل ابن عباس باستنكار: "ما هذه الفتيا؟".
فأجابه ابن عباس رضي الله عنهما برد حاسم وقاطع، مؤكداً أن هذا الحكم ليس رأياً شخصياً منه، بل هو سنة نبيهم محمد ﷺ التي جاءت بوحي من الله تعالى. وقوله: "وإن رغمتم" هو تأكيد على وجوب التسليم للنصوص الشرعية، سواء أعجبنا حكمها أم لم يعجبنا، وسواء وافق أهواءنا أم خالفها.
الحكم الشرعي الذي يدور حوله الحديث:
المسألة هنا تتعلق بـ تحلل المعتمر أو الحاج. والصحيح في مذهب أهل السنة والجماعة، المستند إلى أحاديث صحيحة، أن:
● المعتمر: يحل من إحرامه بالطواف والسعي والحلق أو التقصير. فإذا طاف وسعى وقصر، فقد حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام.
● الحاج: له إحرامان، فيتحلل التحلل الأول (الأصغر) بعد رمي جمرة العقبة والحلق والطواف والسعي، فيحل له كل شيء except النساء. ثم يتحلل التحلل الأكبر (الكامل) بعد طواف الإفاضة.
فالطواف (مع السعي والحلق) هو أحد الأركان التي يتحلل بها المحرم.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- وجوب الرجوع إلى السنة: الحديث درس عظيم في وجوب الرجوع إلى سنة النبي ﷺ في كل أمر من أمور الدين، وترك الاعتراض عليها بالرأي أو الهوى. فالحق ما جاء به الشرع، لا ما تهواه الأنفس.
2- ثبات العالم في الحق: العالم الرباني لا يهتز أمام إنكار المنكرين أو استنكار المستنكرين، بل يثبت على الحق ويجهر به، موضحاً أنه من سنة النبي ﷺ.
3- التسليم للشرع: قول ابن عباس "وإن رغمتم" يعلمنا أن على المسلم أن يسلم لأحكام الله ورسوله تسليماً كاملاً، حتى لو خالفت ظنونه أو أعراف قومه. فالعبرة بالنص الشرعي، لا بقبول الناس أو رفضهم.
4- الأدب في الرد على المخالف: رد ابن عباس كان حازماً في التعبير عن الحق، لكنه لم يكن فظاً ولا غليظاً، بل بين الحكم ومصدره بسداد وحكمة.
5- الرد على أهل البدع: هذا الأثر يستدل به على الرد على من أنكر بعض السنن الثابتة أو استغربها، بتذكيره بأن الأصل هو الاتباع لا الابتداع.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

● مصدر الحديث: هذا الأثر رواه الإمام البخاري في "صحيحه" معلقاً بصيغة الجزم، مما يدل على صحته وقوته عند أهل العلم.
● مكانة ابن عباس: كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن، وكان ملماً بسنة النبي ﷺ غاية الإلمام، لذا كانت فتواه مستندة إلى علم غزير.
● الفقه في المسألة: هذه المسألة (تحلل المعتمر بالطواف والسعي والحلق) هي مذهب الجمهور من أهل العلم، ودليلهم العديد من الأحاديث الصحيحة، منها حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم الذي بيّنت فيه كيف أمر النبي ﷺ أصحابه الذين أحرموا بالعمرة أن يحلوا بعد الطواف والسعي.
أسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يجعلنا من المتبعين لسنة نبيه ﷺ، المعظمين لها، المدافعين عنها. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.